الجولان الذي لا يعرفه علي الديك

2019.03.30 | 00:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

المسافة بين دمشق والقنيطرة لا تتعدى 58 كيلو متراً تلك التي قطعها الباص الذي أقلنا ذلك اليوم نهاية فصل الشتاء إلى قرية (بير عجم) حيث يختلط الطين بالعشب، والمناسبة كانت الاستعداد لاستقبال الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشسكو الذي سيزور المدينة المدمرة، ويلقي كلمة التضامن مع سوريا ضد الممارسات الوحشية الصهيونية العنصرية.

في الطريق إلى المدينة المنكوبة كان لا بد من ترداد كل الأناشيد والهتافات الوطنية التي تتوعد بالنصر على العدو، وتمجد مناقب القائد الذي حوّل الهزيمة إلى أنشودة نصر، والروح التي سنفدي بها الوطن عندما نكبر نحن الذين لم نرَ في هذا الكرنفال سوى مشوار لمراهقين قيل لهم أنتم جنود المستقبل.

كان مشواراً فاصلاً بيني وبين وطني الصغير (الجولان)، ولم يعلق في الذاكرة سوى هذا البكاء المباغت عند مشاهدة البيوت المتداعية، وكان لا بد فيما بعد من استصدار تصريح أمني لزيارتها بالرغم من الخانة التي تصيح أنا من هنا.

في الأحياء التي بناها (النازحون)- وهو الاسم الذي باتوا يعرفون به في وطنهم-  جرى تجهيل أجيال بأكملها إلا ما رحم ربي، وهؤلاء تم فرزهم على أسس طائفية وعشائرية، والدولة القومية والعروبية قسمتهم حسب انتماءاتهم الصغيرة، وفي مجلس شعب النظام كان يتم تمثيلهم درزي وعلوي وشركشي وبدوي وفلاح وتركماني، وهذا أيضاً ما ينطبق على انتسابهم القسري لحزب البعث.

كان البطش شديداً، ومات من شباب الجولان أكثر مما قتل على يد الصهاينة في النزوح الكبير، ووجدها البعض فرصة للعودة حيث الشريط الفاصل بين العين والأرض المستلبة

صارت القنيطرة المدينة الصغيرة المهمشّة بديلاً قزماً عن أرض واسعة خصبة، وخزان ماء لا ينضب، وأصبحت مزار المناسبات الوطنية، وبالكاد يزورها أبناء الجولان مرة في السنة كمن يزور ضريحاً لميت لن يعود، وحجيجاً لباقي السوريين لاستذكار يوم الجلاء.

في تلفزيون الوطن كان الجولان لوناً واحداً، ومواطناً واحداً فقط..هو ذاك الذي بقي هناك في القرى الخمس، وتحول وفق إرادة التقسيم إلى صورة الجولاني الممانع فيما بقية سكان الجولان تم تغييبهم عن المشهد، والآلاف الذين تكاثروا على مرّ عقود النزوح باتوا خارج الكادر لا يحسنون سوى الحسرة على وطن بات أبعد من حطام القنيطرة.

جاء آذار 2011 ليكون فرصة لاستعادة ما مضى، ونهضت في قلوب النازحين كل سنوات القهر والتغييب، وانتفضت تجمعات الفقر في الريف وجنوب العاصمة في أول هبّات دمشق وريفها، وكأنما لم يفنَ المارد المحبوس في قمقم القمع، وكانت شرارة التدمير حيث يعلم الجاني والضحية كم بينهما من دين يجب رده، ومن عمر لا بد من إعادته لأولئك الذين ماتوا وفي عيونهم دمع الحنين المسروق.

كان البطش شديداً، ومات من شباب الجولان أكثر مما قتل على يد الصهاينة في النزوح الكبير، ووجدها البعض فرصة للعودة حيث الشريط الفاصل بين العين والأرض المستلبة، وهكذا طوال سبع سنوات من الحكاية تم إعادة المشهد لكن هذه المرة وصل النازحون في رحلتهم الجديدة إلى كل أقاصي الأرض، ومعهم أيضاً من كتب عليهم التهجير من سوريين فقط لأن عينهم رأت أكثر مما ينبغي لها.

منذ أيام قليلة أهدى ترامب لإسرائيل أرض هؤلاء النازحين وحلمهم، ووقع من واشنطن صك التنازل الأخير على وطن ليس يملكه، وانتظر الجميع الرد المتوقع من نظام الممانعة وحلفائه فكان على قدرهم تماماً..خطاب أجوف عن الصمود والنصر القادم، والجولان السوري في قاموس التنازل.

لم يوفر أبواقهم فرصة للصراخ في منابر الممانعة، توعّدوا وراهنوا، وكان أكثرهم صراخاً الديك الأعرج الذي هزه فقط شبح الإهانة لقائده فانتفض لعش الدجاج، وفي المساء كانت طائرات العدو المرتعش تدك مواقع الحلفاء في أقصى شمال الوطن حيث ترقد قبيلة الديوك التي كانت تعدّ لليلة لطم طويلة على أبواب حلب.