الجنوب السوري على صفيح ساخن

2019.11.19 | 16:51 دمشق

aasadadkjkjklh30.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرّ عامٌ ونيّف على استعادة النظام السيطرة العسكريّة في الجنوب، على ما كان قد خرج عن قبضته لأعوام طويلة منذ انطلاق الثورة في مهدها، أي مدينة درعا. سيكون من المفيد إعادة قراءة ما حصل وبدا وقتها وكأنّه انهيارُ سلطة النظام وفقدانه السيطرة على الحدود وعلى كثير من المناطق، مع ملاحظة أنّه احتفظ بمراكز المدن أو بجزء رئيس منها على الأقل، كما حصل عموماً في درعا والقنيطرة ودير الزور والحسكة وحماة وحمص وحلب. ولعلّ استثناءَي الرقة وإدلب يؤكّدان القاعدة التي يبدو أنّ النظام رسم استراتيجيّته للوصول إليها مبكّراً.

لقد ترك النظام طواعية ّأو بسهولة كبيرة مناطق الحدود الرخوة سياسياً، للاستفادة منها فيما بعد في مساوماته مع دول الجوار والتي أدارها وفق خطّة معدّة لديه سلفاً. لكنّه بالمقابل أصرّ على البقاء في جميع المدن التي خرجت أريافها أو حتى أجزاء كبيرة منها عن سيطرته. إنّ إصراره الاحتفاظ ببقعة صغيرة من مدينة دير الزور وتزويدها بأسباب البقاء من خلال المطار العسكري أكبر مثال على ذلك. أمّا مدينة الرقّة فكلّنا بات يعلم الآن أنّ تسليمها تمّ بنفس الطريقة التي سُلّمت بها الموصل ولغاياتٍ تمّ إدراكها مؤخراً. كذلك فإنّ المعارك الخلّبية التي دارت للتغطية على تسلم مطار "أبو الضهور" في ريف إدلب مثلاً لجبهة النصرة بقيادة الجولاني - بعد استعصاء كبير بوجه جبهة ثوّار سوريا بقيادة جمال معروف - لم تكن أكثر من مسرحيّة لتبييض صفحة تنظيم القاعدة شعبيّاً وتمكينه من رقاب الأهالي والثوّار لاحقاً.

لقد ترك النظام طواعية أو بسهولة كبيرة مناطق الحدود الرخوة سياسياً، للاستفادة منها فيما بعد في مساوماته مع دول الجوار

في الشمال سلّم النظامُ حليفه وربيب معسكرات تدريبه – حزب العمّال الكردستاني PKK - أمر أغلب المناطق الحدوديّة، وكثيراً من المناطق الداخليّة التي رأى أنه قادرٌ على قمع أهلها الثائرين عليه، وتفرّغ لغيرها من المناطق. لقد كان يدرك أنّه بذلك يخلق للأتراك مشكلة وجوديّة سيضطرون في المستقبل للتعاون معه من أجل حلّها. وفي الجنوب ترك قسماً كبيراً جدّاً من الحدود مع إسرائيل والأردن لتستولي عليها فصائل الجيش الحر، وفي مناطق محدّدة سهّل لجبهة النصرة القيام بذلك ومكّنها من التمركز على حدودٍ طالما حماها من أيّة محاولات تسلل على مدار ما يقرب من أربعين عاماً منذ معاهدة فضّ الاشتباك عام 1974.

لعلّ من أهمّ أسباب التنازل عن الحدود أو تسليمها، تسهيل عمليّات تهجير السكّان عبرها دون وجود قوّات عسكريّة تتبع له وتتحمّل مسؤولية السماح أو عدم السماح لهم بالعبور أولاً، ومن ثمّ توريط دول الجوار بهم وتحميلهم أعباء حمايتهم ورعايتهم ثانياً، ثم تأمين الحجّة والغطاء لدخول الجماعات الإرهابيّة عبر حدود لا سيطرة له عليها، ثم لتبرير استقدام والاستعانة بالحلفاء ومليشياتهم ثالثاً، وبالنهاية المساومة في فترة لاحقة على إعادة ضبط هذه الحدود مقابل إعادة التعامل معه والاعتراف بضرورته إن لم يكن بشرعيّته.

بعد مرور أكثر من ستة عشر شهراً على سيطرته على كامل محافظتي درعا والقنيطرة، لم يستطع النظام أنّ يقدّم أيّة خدمات للمدنيّين فيهما، ولن يرغب حتى لو كان يستطيع ذلك وتوفّرت له القدرة والإمكانيّات، وهذا يعود لعقلّية قادة النظام الحاقدة، التي ترى في الإبقاء على الدمار والخراب وسيلة وأداة لعقاب سكّان المناطق التي أهانته وخرجت عن طاعته أولاً، وبؤرة للتوتّر وابتزاز أهالي المنطقة من المغتربين ودول الجوار والمجتمع الدولي ثانياً. سنورد هنا بعض المشكلات التي ما تزال عالقة في تلك المناطق للتدليل على السياسة المتّبعة من قبل النظام في هذا المجال.

  1. لم يتم حتى الآن الإفراج عن المعتقلين في سجون النظام، بل على العكس من ذلك ومنذ سنة وحتى الآن قامت أجهزته باعتقال المئات من أبناء الجنوب بذرائع مختلفة ولم يطلق سراحهم، وتم تحويل عدد كبير منهم إلى محكمة الإرهاب والمحاكم الميدانية، وهؤلاء مصيرهم الإعدام أو سجن صيدنايا الأشدّ رعباً من الإعدام ذاته.
  2. يعاني سكان الجنوب جميعاً، وبالأخص منهم أولئك الذين قاموا بتسوية أوضاعهم أمنيّاً وعددهم حوالي 122 ألف شخص، من عدم قدرتهم على ممارسة الحياة الطبيعية مثل العمل في مهنهم ومصالحهم ولا حتى عودة الطلاب إلى جامعاتهم، بسبب عدم القدرة على استخراج الأوراق الرسمية لأيّة معاملة كانت. فالموافقة الأمنيّة مطلوبة ليس فقط في عمليّات بيع وشراء السيارات والعقارات، بل أيضاً في عودة الطلاب إلى جامعاتهم والموظفين إلى وظائفهم والنقابيّين إلى نقاباتهم. فلا المحامي ولا المهندس ولا الطبيب ولا المقاول بقادر على العمل دون الحصول على هذه الموافقة. بل أكثر من ذلك فإنّ تثبيت واقعات الأحوال الشخصيّة من زواج وطلاق وولادة ووفاة باتت تحتاج إلى موافقة أمنيّة.
  3. مشكلة العسكريين المنشقين عن قوات النظام من الجيش والشرطة وأجهزة المخابرات تتفاقم بدل أن يتمّ حلّها، فكل من سلّم نفسه بعد التسوية سواءٌ قبل أو بعد صدور مرسوم العفو الرئاسي تعرّض للتعذيب الشديد والبعض تمّ الحكم عليه بالإعدام أو تمّت تصفيته والبقيّة غير معروف مصيرهم.
  4. ازدياد نشاط ميليشيا حزب الله ونفوذ إيران بالتالي، من خلال تكثيف عمليّات التشييع وتجنيد الشباب في هيئات وتنظيمات عسكريّة وأمنيّة، باستغلال التضييق الأمني وانعدام فرص العمل وبالتالي الحاجة الماديّة والحاجة للأمان من ملاحقات أجهزة المخابرات. هذا كلّه يبقي على الجرح مفتوحاً وعلى أسباب النزاع قائمة، نظراً لما يكنّه أهالي المنطقة من حقد وضغينة على إيران وميليشياتها.
  5. الانتقام من السكّان عبر نشر حواجز الجيش والمخابرات على مداخل المدن والقرى، وعبر تفعيل مبدأ الدعاوى الجزائيّة الكيديّة لاعتقال الأهالي بحجّة وجود حقوق شخصيّة، وإلقاء الحجوزات على أموالهم وممتلكاتهم ومصادرتها من قبل السلطات التنفيذية والقضائية، وأحكام السجن الطويلة وأحكام الإعدام الصادرة غيابيّاً من محكمة الإرهاب والمحاكم الميدانية.
  6. إعادة تفعيل دور حزب البعث في الحياة العامّة وفرضه على الناس بالقوّة وتدخّله بشؤونهم، رغم أنّ الدستور الأخير الصادر عام 2012 قد ألغى المادّة الثامنة من الدستور القديم والتي كانت تنصّ على أنّ حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع. وكأحد تجلّيات هذا التدخّل تمّ فرض مرشحين بعثيّين فقط في الانتخابات المحليّة التي أجريت بعد أشهر من إعادة السيطرة على الجنوب.
  7. انعدام الخدمات بشكل كامل في جميع المجالات الصحيّة والتعليمية والإدارية وغيرها مثل انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه دائم وانقطاع المياه الصالحة للشرب وانقطاع خدمة الهاتف الأرضي، وعدم بذل أدنى الجهود لإصلاح البنية التحتيّة من طرق ومدارس ومستشفياتٍ ومؤسسات حكوميّة. ورغم كلّ ذلك إرهاق الناس بفواتير المياه والكهرباء والهاتف عن السنوات الماضية رغم انقطاع الخدمة المقدّمة  لهم تماماً أثناءها. يضاف إلى ذلك كلّه الانخفاض الحادّ بسعر صرف الليرة السوريّة أمام الدولار بسبب انعدام أسس قيام وتعافي الاقتصاد المحلي والوطني.

كلّ ما فعله النظام أنّه ركّز على نقطتين بسيطتين بعد استعادته كامل مناطق الجنوب. فتح أولاً معبر نصيب الحدودي لتسهيل تدفّق المخدرات عبره إلى دول الخليج، وبذلك يضرب عصفورين بحجر واحد، أولهما زعزعة الأمن الاجتماعي في تلك الدول وثانيهما إمداد زبانيته وميليشياته بالمال اللازم لبقائها قادرة على خدمته بعد أن شحّ مال الدعم الإيراني. ثمّ إن النظام ليس لديه ما يصدّره سوى ذلك، كما إنّه يعلم أنّ الحصار المضروب عليه من الأميركييّن سيمنع الجميع من المغامرة بالتبادل التجاري معه.

من أهمّ أسباب التنازل عن الحدود أو تسليمها، تسهيل عمليّات تهجير السكّان عبرها دون وجود قوّات عسكريّة تتبع له وتتحمّل مسؤولية السماح أو عدم السماح لهم بالعبور

طمح النظام ثانياً للاستفادة من الخزّان البشري من الشباب لترميم جيشه المتهالك، لكنّ ذلك جرى على غير ما يشتهي تماماً، فقد توصّل قادة بعض الفصائل العسكريّة إلى اتفاق مع الروس لإبقاء مناطقهم خارج سيطرة قوّات النظام، وعلى أن يخدم أبناء هذه المناطق فيها ضمن قوّات الفيلق الخامس المدعوم من روسيا. أمّا بقيّة المناطق التي أجرت التسوية دون الحصول على اتفاق مماثل، فقد شهدت منذ ذلك الحين عمليّات انشقاق كبيرة من قوات النظام التي التحق بها أبناؤها، ويقدّر العدد بثلاثة آلاف شابّ هربوا من قطعاتهم العسكرية، أو بقوا في منازلهم بعد أن أتيح لهم أخذ إجازة لزيارة قراهم أو مدنهم.

إذن ولهذه الأسباب، لم تهدأ مناطق الجنوب ولن تهدأ، فالناس بحاجة لعشرات السنين من حكم رشيد يعاملهم باحترام كمواطنين كاملي المواطنة محفوظي الحقوق بعد تطبيق مسار متكامل للعدالة الانتقاليّة وتأمين الحاجات الأساسية والخدمات اللازمة وإعادة الإعمار، حتى يتمكّنوا من نسيان القدر الهائل من الظلم الذي حاق بهم على يد نظام الاستبداد السابق، فما بالنا بنظام استبداديّ يظنّ نفسه انتصر على الشعب ويرفض أن يتغيّر إلّا نحو الأسوأ؟

تدلّ طريقة تعامل النظام مع سكّان المناطق التي استرجعها بقوّة حليفه الروسي على غباءٍ منقطع النظير أو على ضيق أفقٍ إذا أحسنّا الظن، لكنّ الأغلب الأعمّ أنها تدلّ على حقدٍ غير مسبوقٍ من أشخاص لا يمكن اعتبارهم إلّا أعداءً أبديّين والصراع معهم صراعٌ تناحريٌّ على البقاء. لذلك رأينا وسنرى مجدّداً المظاهرات المطالبة بخروج ميليشيا حزب الله من الجنوب، والاحتجاجات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين والوقفات والاعتصامات المطالبة باسترداد الحقوق التي ثار السوريّون أساساً من أجلها. وقد لا تقف الأمور عند هذا الحدّ، فلا أحد يعلم أين يمكن أن تصل التحرّكات بالناس بعد أن فقدوا الأمل تماماً أو يكادوا.