الجملوكية الأسدية

2022.05.25 | 06:21 دمشق

bshar-alasd-wnjlh-hafz.jpg
+A
حجم الخط
-A

في إحدى أشهر مقولاتها خلال الثورة قالت الفنانة السورية الراحلة مي سكاف في مقابلة  تلفزيونية معها في عام ٢٠١٢ حين سألها المحاور عن سبب وقوفها إلى جانب الثورة، قالت: (لا أريد لابني أن يحكمه في المستقبل ابن بشار الأسد)، كانت مي محقة في ذلك والمهم أن رؤيتها كانت بعيدة المدى، ذلك أن سوريا ومنذ حكم الأسد الأب بدأت تتجهز لتكون (الجمهورية العربية السورية الأسدية) أسوة ربما بممالك عربية تلقب بأسماء حكامها، فلم يكن هناك ما يجعل سوريا الأسد تختلف عن ذلك سوى القشور الظاهرية كالحزب والنقابات والدستور ومجلس الشعب ومفردة الجمهورية في اسمها الرسمي، أما في الحقيقة فإن آل الأسد تصرفوا بسوريا بوصفها ملكا لهم، خيراتها لهم، وعائداتها لهم، وشعبها ليس أكثر من رعية للحاكم الآمر الناهي الذي يأمر فيطاع وإن لم يطع فالغضب سوف يحل على من عصى الأمر، ثم جاء التوريث الذي كان جميع السوريين يعرفون أنه حاصل ولا بد، مات الوريث الأول ليتحضر السوريون للوريث الثاني الذي تم تغيير بند السن في الدستور خلال خمس دقائق لأجله، وهو أمر لا يمكن أن يحصل في أي دولة تحترم مؤسساتها الدستورية، وإنما يحصل في الممالك والإمارات المحكومة بهوى ومزاج حكامها وبطانتهم.

واقع الحال الذي يظهر اليوم يقول إن ما خشيت منه الراحلة مي سكاف هو السيناريو الأكثر حظا بالفوز: أن يرث حافظ بشار الأسد حكم سوريا من بشار حافظ الأسد

تم الأمر وحصل ما حصل وتسلّم بشار الأسد حكم سوريا بعد موت أبيه (وكأن سوريا خلت وقتئذ من أي بديل)، ولم تعد ثمة فائدة ترجى من استعادة ما حدث منذ تسلّمه الحكم وحتى الثورة عام 2011 وما نتج عنها، فكل ذلك قد أشبع كلاما وشرحا وتشريحا من السوريين ومن غيرهم. لكن ماذا بخصوص القادم من الأيام؟ مهما طال الزمن فإن بشار الأسد سوف يرحل بطريقة ما أخيرا، سواء رحيل سياسي أم رحيل مادي بالموت، ماذا سيحدث حين يتم الأمر وهل سوريا والسوريون جاهزون ومجهزون لتلك اللحظة؟

واقع الحال الذي يظهر اليوم يقول إن ما خشيت منه الراحلة مي سكاف هو السيناريو الأكثر حظا بالفوز: أن يرث حافظ بشار الأسد حكم سوريا من بشار حافظ الأسد الذي ورث حكم سوريا من حافظ الأسد، وهكذا يتحقق (الخلود) الذي ألصق كصفة باسم حافظ الأسد الأب، وهكذا أيضا يترسخ وصف (الجملكة) في اسم سوريا الأسد (الجمهورية المملكة أو المملكة الجمهورية أو ربما الجمهورية المملوكة لآل الأسد). ذلك أن لا شيء حاليا يوحي بسيناريو آخر، فالمجتمع الدولي تراخى تماما بما يخص الأزمة السورية، وسلمها لإيران وروسيا التي يبدو أنها تريد الاستفراد الكامل بسوريا خصوصا مع عدم قدرتها على حسم الحرب في أوكرانيا لصالحها، فالقصف الإسرائيلي الذي تزداد وتيرته في الأسابيع الأخيرة في سوريا والذي يستهدف مواقع عسكرية إيرانية وشحنات أسلحة في الساحل السوري وفي أماكن لا يمكن أن يعرفها سوى الروس الذين يسيطرون على الساحل السوري كاملا، يعزز نظرية أن روسيا تبيع الوجود الإيراني في سوريا لصالح إسرائيل ولصالح استفرادها في السيطرة العسكرية والاقتصادية الكاملة على سوريا، ما يعني أن الغلبة في صراعات السلطة والمال في سوريا سوف تكون لحلفاء روسيا التي ترى في بشار الأسد حاليا أفضل من يحمي مصالحها ووجودها خصوصا أن بوتين يتصرف معه لا بوصفه رئيسا ندا له بل على الأغلب يعتبره أحد أفراد الأوليغارشية المحيطين به، يتضح هذا من السلوك الذي يتبعه الحرس البوتيني مع بشار الأسد في كل مرة يطلبه بوتين للقاء، كما أنه بات معروفا أن أسماء الأسد و(جماعتها) هم حلفاء روسيا في سوريا لا حلفاء إيران، وطرح اسم أسماء الأسد مرات عديدة لتخلف لبشار ليس عبثا، بل هو محاولة لرصد المزاج العام المحلي والدولي حول الأمر، لكن يبدو أن الروس لم يشعروا حتى اللحظة بضرورة استبدال بشار بأحد لا بسبب ضغوط داخلية ولا خارجية دولية، فلماذا إذاً لا يبقى في مكانه وفي هذه الأثناء سوف يصل حافظ بشار الأسد إلى السن المناسبة التي تؤهله ليتسلّم الحكم من أبيه الذي سيغيب يوما ما كما غاب أبوه سابقا.

ما فعلته هيئات المعارضة أنها نفذت أجندات سياسية لا علاقة لها بالوطنية السورية ولا بأهداف الثورة بل بالمنظومة السياسية والاقتصادية للدول الممولة والمانحة والداعمة

لا أظن أن ثمة في سوريا من كان يتوقع حصول سيناريو مشابه، وحين نطقت الراحلة مي سكاف جملتها الشهيرة تلك، أتذكر أننا استحسنا ما قالت لكننا استبعدناه جميعا، إذ كان حافظ بشار الأسد ما زال طفلا، وكانت الثورة في بداياتها والأمل بانتصارها وبتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي كان كبيرا بقدر الحلم الذي حلمه السوريون، لكن حصل ما حصل وتغيرت المآلات وفشلت الثورة وسقطت الأحلام الكبيرة، وبقي آل الأسد في حكم سوريا بعد حرقها وتدميرها واستقدام كل أنواع الاحتلالات إليها من جهة، وفشل المعارضة السياسية في الخارج والداخل في تقديم بديل مناسب للمجتمع الدولي، إذ غرقت المعارضة في خلافاتها السياسية والأيديولوجية، الخلافات التي صوّبت سهاما مسمومة نحو كل مشروع أو مبادرة أو شخصية يمكنها أن تشكل بديلا مقبولا عن النظام الحالي، أو أن تقدم برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يتضمن حلولا مناسبة وتوافقية للأزمة السورية، ما فعلته هيئات المعارضة أنها نفذت أجندات سياسية لا علاقة لها بالوطنية السورية ولا بأهداف الثورة بل بالمنظومة السياسية والاقتصادية للدول الممولة والمانحة والداعمة، دون أن تدرك النخبة السورية المعارضة أن المنظومة السياسية لهذه الدول ليست ثابتة وإنما هي متغيرة بتغيير المصالح، وهو ما حدث فعلا، ما جعل من شكل هيئات المعارضة السياسية والعسكرية السورية يدعو للرثاء لفرط تشتتها وتغير مواقفها وتصريحاتها، واحتفاظها بخطاب المظلومية والتشكي لدى أروقة المجتمع الدولي الذي أحسبه بات يحفظ خطاب المعارضة السورية عن ظهر قلب، في الوقت الذي تتغير فيه سمات سوريا وتركيبتها الديمغرافية ومكانتها الجغرافية وتضيع هوية مجتمعها ويفقد من تبقى فيها مقومات الحياة اليومية بأبسط أشكالها وهم ينتظرون انتقال الجملوكية السورية الأسدية من وريث إلى آخر.