icon
التغطية الحية

الجامع الأموي وتفاصيل حول الفن والدين والحالة الإمبراطورية في سوريا

2022.11.16 | 06:09 دمشق

جامع بني أمية الكبير بدمشق في عام 1862
جامع بني أمية الكبير بدمشق في عام 1862
Hyperallergic - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

في عام 1479 ميلادي، وخلال حصار دمشق على يد حاكم آسيا الوسطى تيمورلنك، تعرض الجامع الأموي بدمشق لحريق مدمر. كان عمره وقتئذ 800 عام، إلا أن الإحساس بالخسارة التي لا يمكن تعويضها ظهر بشكل جلي في الروايات التي ذكرها شهود العيان وكذلك تجسد عبر الإجراءات اليائسة التي تم اتخاذها لإنقاذ السجاد والمفروشات النفيسة وكذلك أعظم كنوز الجامع، وهي نسخة من القرآن الكريم تعود للخليفة عثمان بن عفان.

تعيد تلك الذكريات هذه الحالة للأذهان اليوم، بما أن سوريا ماتزال تعاني من حالات السلب والنهب خلال أكثر نزاع مدمر في العصر الحديث، بعدما تركت لتعاني من تبعات تدمير حياة البشر وخسارة التراث الثقافي والمادي في البلد.

ضمن هذا السياق، يذكرنا كتاب آلان جورج: "الجامع الأموي بدمشق: الفن والدين والحالة الإمبراطورية في صدر الإسلام" القائم على بحث علمي دقيق وصور بصرية فخمة بغنى تراثنا في سوريا. إذ بني هذا الجامع في عام 706 للميلاد على يد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، ليصبح من أعظم الأوابد في فن العمارة على مستوى العالم، لكونه من أكبر الجوامع وأكثرها زينة وزخرفاً في العالم الإسلامي.

الوليد بن عبد الملك: باني المساجد

بفضل الزخارف التي تنتشر في باحة الجامع الفسيحة والتي تتمثل بالرخام الملون، والأخشاب المطلية، والزجاج المعشق، والفسيفساء البراقة، تحتفظ فخامة الجامع الأموي بقدرتها على خلق إحساس بالهيبة في نفوس الزوار حتى يومنا هذا، على الرغم من أن البناء الذي نراه اليوم ما هو إلا ظل للجمال الباهر الذي جسده هذا الجامع خلال القرن الثامن، إذ لم يدخر الوليد شيئاً مما أنفقه على بنائه خلال الفترة التي تعتبر ذروة الاستقرار والازدهار في العصر الأموي. كان بناؤه للجامع الأموي مشروعاً من بين ما لا يقل عن ثمانية مشاريع لتشييد مساجد شملت المسجد الأقصى في القدس ومسجدي مكة والمدينة، ولهذا كان من الواجب أن يحظى هذا الخليفة باعتراف أوسع بصفته أحد أعظم مشيدي تلك الصروح الأثرية القديمة. وإذا استبعدنا قبة الصخرة التي بنى فوقها عبد الملك بن مروان مسجداً، يمكن القول بأننا ندين للوليد بفكرة الطراز المعماري الأموي، وهذا ما يصوره جورج عبر إعادة تشكيل هيكل الجامع في بداياته، والذي ارتقى من مستوى المساجد البسيطة التي كان لها غرض محدد في صدر الإسلام إلى مستوى إمبراطوري يعكس مدى روعة البنيان وعظمته.

أحد جوانب الجامع الأموي

شكل الجامع الأموي وهيكله

ينقل كتاب جورج القارئ في رحلة مفعمة بالحيوية في تاريخ هذا البناء المقدس ومعانيه وعظمته على مرور الأزمان، لكونه اقتبس نموذج الرق الأملس الذي يرى الكاتب بأن الجامع الأموي بني وفقاً لذلك الأنموذج المعماري. فقد شيد هذا الجامع داخل الأركان المقدسة لمعبد جوبيتر الروماني القديم، الذي بني أيام أغسطس ليصبح ثاني أكبر معبد لدى الإمبراطورية الرومانية. وبعد اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية، تحول المعبد إلى كنيسة، ثم إلى جامع، وقد عرفنا ذلك من خلال أدلة أثرية وأخرى وردت في نصوص قديمة، إلا أن الموقع المحدد له، وشكله وطبيعته، والعودة لاستخدامه ما تزال محل جدل ونقاش. بيد أن جورج يقنعنا بأن آثار كل حقبة من تلك الحقب التاريخية ماتزال بادية على مخطط الجامع وزخارفه.

تتميز محاججة جورج بحد ذاتها بأنها معقدة ومتعددة المستويات، حيث تجمع بين سلسلة من مصادر التنوع المبهرة، بدءاً من قصائد المديح التي كتبت في وصف الجامع في القرن الثامن، ومصادر الوثائق التي تشبه نسخة القرآن التي عثر عليها في صنعاء، وأوراق البردي التي تعود لصدر الإدارة الإسلامية، من أوراق أفروديت في مصر، وصولاً إلى حوليات العصور الوسطى. ولهذا يستمد جورج كثيراً من تلك الأدلة التي تشير إلى الهيكل المادي الذي استفاد من أساليب التحليل الأثري والمعماري والأدلة المتمثلة بصور تعود لمطلع القرن العشرين، إذ تشير تلك المصادر في الغالب الأعم إلى بعضها بعضا، وتدفعنا للتفكير فيما ورد ضمن روايات سابقة وإعادة صياغتها ودمجها ضمن القصة الأكبر لحالة هيكل الجامع وبنائه وتجديده، مع إدخال عناصر معمارية قديمة عليه من جديد.

ضمن تلك المجموعة من الأدلة المؤلفة من مستويات عديدة تشتمل على تناقضات في بعض الأحيان، نكتشف بأن ما يحفز جورج على البحث هو ذلك السؤال الوحيد: لماذا بنى الوليد هذا الجامع؟

صف من الأعمدة التي تصل إلى الجهة الغربية من مسجد بني أمية الكبير  بدمشق

تاريخ الصورة 2010

اعتبر معاصرو الوليد تدميره للكنيسة بمثابة عمل استبدادي وخروج عن العادات المألوفة القائمة على  الاحترام في التعامل مع أهل الذمة من المسيحيين واليهود الذين يعيشون في كنف الحكم الإسلامي الذي تعهد بحمايتهم من الناحية القانونية. إذ يرجح كثيرون بأن الوليد الذي كان في أواسط الثلاثينيات من عمره حينذاك، وفي أول سنة من خلافته، تصرف بطيش عندما وضع يده على الكنيسة وهدمها، ولعله اضطر لمعالجة التبعات السياسية التي ترتبت عليه من قبل مسيحيي دمشق والإمبراطور البيزنطي جوستنيان الثاني في القسطنطينية.

الجامع الأموي ويوحنا المعمدان

إلا أن الغريب في الأمر هو أن جورج أظهر بأن الكنيسة لم تكن مرتبطة على ما يبدو بيوحنا المعمدان أيام الوليد، لأن هذا الربط حصل بعد بناء الجامع لا قبله، في محاولة ناجحة لربط موقع هذا الجامع بماضيه المسيحي. وبناء على ذلك، لاشك بأن الجامع قد شيده بناؤون مسيحيون، بما أنهم كانوا ما يزالون يمثلون غالبية سكان تلك المنطقة، بيد أن تلك الفكرة مثيرة للاهتمام إلى أبعد الحدود.

ومع ذلك يبدو بأن السردية التي تركز على الطبيعة السنية للجامع التي قدمها جورج قد تغاضت عن الاحتمال الأرجح الذي ورد في بحث آخر حول هذا الجامع، إذ يركز ذلك البحث على ربط الجامع برأس الشهيد الحسين، الذي نقله الأمويون إلى دمشق وقدسه الشيعة. لذا من المحتمل أن يكون ارتباطه برأس يوحنا المعمدان بمثابة سردية معارضة أو مرافقة للتقديس الذي تطور بسرعة كبيرة حينذاك للموضع الذي دفن فيه رأس الحسين. وهذا التحليل لمعاني وجود بقايا رأس الحسين في ذلك الموقع التاريخي القديم يعزز ما قدمه جورج من محاججة، دون أن ينتقص ذلك من الفكرة الآسرة التي خرج بها جورج حول قصائد المديح التي أمر الوليد بكتابتها حول بناء ذلك الجامع، وذلك عندما كلف ما لا يقل عن أربعة شعراء معاصرين له بذلك، كان بينهم شاعر مسيحي، إذ قد تكون تلك مجرد محاولة لإدارة ردة الفعل المسيحية ولتبرير وتأكيد سداد رأيه عندما استولى على الكنيسة وهدمها. ثم إن الرفاهية والفخامة غير المسبوقة التي بنى بها ذلك المسجد قد تكون بمثابة محاججة بصرية وحسية.

التفعيلة الشعرية البصرية

قد تصدم بعض فصول هذا الكتاب القراء، لكونها مغرقة في أسلوبها التقني والتجريبي، بيد أن هنالك أجزاء منه تشتمل على وصف يصعب على المرء تحليله، بحيث يقرؤه وكأنه ملحق نثري أكثر من كونه محاججة واضحة المسار، وتتعقد الأمور مع قلة الصور البيانية والتوضيحية. إلا أن هذا الكتاب يعتبر بلا شك أشمل رواية حول هذا الجامع وأكثرها إيراداً للتفاصيل منذ القرن الثامن حتى يومنا هذا. إذ في حال قرر أحدهم أن يعيد بناء الجامع بصورة رقمية، فلن يحتاج لأن يبحث عن مصدر آخر غير هذا الكتاب، وذلك لأن تفاصيل تحويله من معبد إلى كنيسة ثم إلى جامع مشروحة هنا بشكل لم يسبقه إليه أحد.

لعل أروع فكرة قدمها هذا الكتاب هي فكرة تفعيلة الإيقاعات البصرية للفسيفساء التي تتوافق بشكل دقيق مع التفعيلة الشعرية لإحدى قصائد المديح التي أمر الوليد بكتابتها حول جامعه. فبما أن الفسيفساء قد دخلت في سياق الشعر وعلم البديع القديم، لذا فإن قوتها قد تستقر بشكل كبير ضمن المعاني المتعددة والغموض الذي تؤكده الكثير من الثقافات المتوسطية القديمة، حيث يصبح تعدد المعاني والغموض في كل من الشعر والزخرفة شيئاً مقصوداً، ويعتبر مصدراً لسبر أغوار معان لا تنضب. وهنا يأتي الإنجاز الذي قدمه جورج ليكون الأبلغ والأوضح، حيث يتحدى وبكل فجاجة أساليبنا المعاصرة في رؤية الأمور، ليدعونا عوضاً عن ذلك لمعاينة أحد أشهر الأوابد الإسلامية وأكثرها دراسة، ولكن بعين شخص معاصر يدرس آثار الأقدمين.

 المصدر: Hyperallergic