الثورة من أجل التشابه أم المساواة؟

2021.09.15 | 06:34 دمشق

onepeople1.jpg
+A
حجم الخط
-A

"واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد" كان هذا الشعار أحد أبرز الشعارات التي انطلقت في بداية الثورة السورية وعلى كامل التراب الوطني. هل كان ذلك شعاراً؟ أم كان هاجساً وهدفاً؟ هذه المادة لا تناقش تلك الإشكالية، ولكن وعلى افتراض أن الشعب السوري كان أو ما يزال واحداً، فإن مآلات الأمور توضح جلياً أن أهدافه ليست واحدة. نادى الجميع بالأهداف العريضة الثلاثة، حرية، كرامة، مساواة. في التطبيق، في التصور، في الغاية اختلفت تعريفات تلك الأهداف. اختلفت لمرحلة الاحتراب بين الذين خرجوا ينادون بها حول تعريف كل هدف منها.

سيخرج كثيرون في الثورة السورية منادين بالحرية والمساواة والكرامة لجميع السوريين، وسينادون ضد بشار الأسد الديكتاتوري الظالم، سيعلوننها في كل مكان في العالم، ثم سيضيفون إليها في الفضاء المحلي "العلوي" أو "النصيري". سيزينون بروفايلات صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بصور صدام حسين أو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي حاز كل منهم لقب "أسد السنة". سيصرون على المساواة، لكن هؤلاء الذين سيقدسون صدام سيرفضون بالعلاقة أي تنازل عن القومية العربية، فالجمهورية تبقى العربية السورية، واللغة الرسمية الوحيدة تبقى العربية، وهؤلاء الأكراد ليسوا في معظمهم سوى الذين جاؤوا من تركيا، ومعظم الأكراد طيبون بسطاء، هؤلاء الذين لا يطالبون بحقوق قومية، أما الذين يطالبون فهم غرباء عملاء مندسون. الطيبون منهم من يرضى برعايتنا، بلغتنا، بثقافتنا، وينسى كل ما يشعر به وما لديه، هو ليس سوى دخيل علينا وعليه شكرنا لإيوائه.

في المقابل ستتزين كثير من الصفحات بصور شخصيات سياسية لها أبعاد إسلامية أو شعارات إسلامية، وهؤلاء يطالبون بالحرية والمساواة، فلا حرية أفضل من التي حفظها الشرع، ولا مساواة أفضل مما حققته الشريعة. العلماني مرتد، والمسيحي أقربهم مودة، ما عليه إلا أن يدفع الجزية، ويحجّب نساءه، ويرضى بحكم الشريعة، وهو فيما بعد حر تماماً، ومساوٍ تماماً للآخرين. إيمانه، قناعاته، ثقافته، هذا شيء آخر، فلا مجال لحرية ومساواة "لا تراعي المجتمع".

الحرية تقول لكلٍّ الحق في أن يؤمن كما يشاء ويمارس من السلوكيات ما يشاء طالما أن ضرراً مادياً لا يقع على غيره

الحرية لا تملك شكلاً محدداً، ولا رسماً مسبقاً، ولكنها تلك التي يتفق عليها المجموع، بعيداً عن المساواة، وهي مقدمة عليها. التقديم يأتي لأن الحرية لا تضر بالمساواة، بل تدعمها، وتحصنها، وتجعلها واقعاً معاشاً، أما المساواة بدون الحرية فلا تعني سوى التشابه. الحرية تقول لكلٍّ الحق في أن يؤمن كما يشاء ويمارس من السلوكيات ما يشاء طالما أن ضرراً مادياً لا يقع على غيره، ولا يمكن أن يتم استيراد الحرية من نص أو خطة مسبقة، لا يمكن أن نستخلص حرية من الشريعة، بحجة أن أكثرنا مسلمون، فهناك من هم ليسوا من أكثرنا، وهناك من هم من هذا الـ "أكثرنا" لا يقبلون بالشريعة حكماً. الحرية ليست أمرا يمكن التصويت عليه وتتم الموافقة عليه بالأغلبية. مصر دليل ناصع على ذلك. لم يعد الزمن كما كان عليه في القرن الماضي. الفرق بين الحرية التي تأتي بعد المساواة، أي تلك التي تأتي بعد الديمقراطية والتي تسمح تلك الديمقراطية بالتصويت عليها، وتلك التي تأتي قبل الديمقراطية وتسمح للديمقراطية أن تعيش بظلها بعد أن تتسلح ضدها هو الفرق بين دولة الأمة ودولة المواطنة.

كثير من السوريات والسوريين خرجوا ليس من أجل الحرية، بل من أجل تبديل استبداد بآخر، على أن يضمن لهم هذا الاستبداد الآخر "مجتمعاً متجانساً" كما سماه مجرم الحرب بشار الأسد. هؤلاء هم الذين يتباكون على صدام، وعلى غيره، هؤلاء لا يرون مشكلة في استبداد الأسد، بل في أن هذا الاستبداد لا يقود لتشابه يفيد بالمساواة بينهم وبين غيرهم، لا يجبر الآخرين على أن يشبهوهم. صدام كان يمكن أن يجبر الناس على أن يكونوا كلهم ضد إيران، على أن يكونوا كلهم سنة، على أن يكونوا كلهم عرباً، هذا استبداد برأيهم عادل. العدل يتأتى لديهم بالتشابه، بالتجانس المطلق بينهم وبين من يجبرون على أن يكونوا مثلهم أو يتصرفوا كما لو أنهم مثلهم. هذه دول الأمة، الأمة التي يذوب فيها الشعب، التي تمحو الفردية لصالح الكل، فالأمة جسد واحد، وهي ضرورة للمستبد؛ لأن الجسد الواحد يحتاج إلى عقل واحد، يتمثل بالمستبد أسداً للأمة أو حامياً أو رمزاً لها. لا يهتم هؤلاء بحرية أو ديمقراطية أو ظروف معيشية أو تعليم، ما يهمهم أن يستيقظوا صباحاً ليروا جارهم يكاد يطابقهم في الأحلام والرؤى والتصور والفكر، فيعيشون هكذا نسخاً متعددة في خدمة الأمة وخدمة المستبد المناصر لأفكارهم، بل ويموتون من أجله.

دولة المواطنة جاءت خطوة متقدمة على العلمانية لتحديد مسارات أكثر للحرية من خلال وضع حد لدخول الأمة في الدولة كما وضعت قبلها العلمانية حدا لدخول الدين فيها. تزايدت دولة المواطنة التي لا يمكن أن تعيش إلا في مجتمع ليبرالي - حر شعبية بعد الحرب العالمية الثانية والويلات التي ذاقتها الدول من توجهات الدول الأمم. في دولة المواطنة قبل أن يتساوى الناس يصبحون أحراراً، لكل فرد الحرية فيما يفكر ويفعل وتوضع القوانين لتنظم تلك الأفكار والأفعال بما لا يؤدي إلى ضرر مادي على باقي الأفراد، ولكن أيضاً لتضمن وتحمي حرية ذلك الفرد فيما يفكر ويفعل، ثم بعد ذلك تأتي المساواة. يذهب الناس للانتخابات بصوت واحد لكل منهم، ينتخبون من يشاؤون، وتنجح أكثرية لا يمكن لها أن تكون أكثرية إيديولوجية، لأن دولة المواطنة التي وضعت دستورها مسبقاً لا تسمح لإيديوجيا الكثرة بالتغول على مجتمع الكل، وبالتالي تتحول تلك الأكثرية لأكثرية سياسية. المشاريع التنموية والعمل على المجتمع هي ضابط الاتصال بينها وبين الناخب. سعر البنزين في هذه الدولة يلعب دوراً مثلا في الانتخابات أكثر من الانتماء الطائفي أو الديني أو القومي لهذا المرشح أو ذاك.

العدالة الحقيقية ترى في الحرية شرطاً لازماً، وبانعدامها أو نقصها لا يمكن للعدالة أن تتحقق

دولة الأمة تحث على التشابه، تحث على انخراط الفرد في المجموع، في الأمة، ومن ثم انخراط الأمة في الفرد مرة أخرى ليكون أسد تلك الأمة أو حاميها. دول المواطنة تحث على احتفاظ الفرد بفردانيته وتنظم له دوره في الدولة والمجتمع. يأخذ ما له، ويقوم بما عليه، ثم هو حر ضمن دستور وقانون اتفق عليهما الجميع، ويحفظ حرية الجميع.

لا يوجد مستبد عادل، يوجد مستبد يتساوق مع فهم العدالة من قبل فئة معينة، أما العدالة الحقيقية، فهي الشعور بالرضى والشعور بالتحصل على الحق بين جميع الناس، العدالة الحقيقية ترى في الحرية شرطاً لازماً، وبانعدامها أو نقصها لا يمكن للعدالة أن تتحقق.

هناك من خرج ليناهض استبداداً حالماً باستبداد آخر، لأن هؤلاء لا يملكون قرارهم، هؤلاء يحتاجون لمن يحمل المهمة في التفكير عنهم، هؤلاء لا يقلقهم سوى عدم التشابه، يظنون أن التشابه سيأتي بالخير والبركة، هؤلاء يموتون لتحيا الأمة، ويحيا القائد. هؤلاء خرجوا في الثورة لأنهم مقهورون وليس لأنهم أحرار.

في المقابل هناك من خرج في الثورة لتكون الحرية له وللجميع، ليتفقوا على صيغة مشتركة يعيشون بها دون أن يضروا بمصالح بعضهم بعضا، يظنون أن الحرية والمساواة والمساءلة والشفافية هي التي تأتي بالخير، هؤلاء لا يموتون لتحيا الأمة ويحيا القائد، ولا يرون في الديمقراطية أن يضعوا القائد الذي يشاؤون على العرش، بل يرون أنها تعني أنه لا وجود لعرش من أساسه. هؤلاء كان القهر خارج حساباتهم، وخرجوا لأنهم أحرار كانوا ينتظرون فرصة للكرامة والنجاة.