الثورة الأخلاقية في الموجة الثانية للربيع العربي

2019.11.09 | 17:32 دمشق

49b4bdf5-6cf3-444d-95b5-485b9db3ff3a_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

التسجيلات الصوتية والنصية المسربة إلى وسائل الإعلام اللبنانية، لكبار موظفي الدولة، ساسة ومديرين عامين وقضاة ومحامين وعسكريين ومستشارين، عدا عن كونها تفضح أعمالاً وصفقات غير مشروعة واستغلال نفوذ ومخالفات صارخة للقوانين، تجعلنا نشعر بالمهانة والقهر والغضب، فهي تكشف أمراً أسوأ من الارتكابات وشبهات الفساد: تكشف الوضاعة. فعند الاستماع إلى محادثاتهم وكيفية تخاطبهم فيما بينهم نلحظ أسلوب الكلام الدنيء والصفاقة والأريحية الكاملة في استباحة كل شيء، استباحة القوانين واستباحة مصالح الدولة والمواطنين. غياب أي غيرة أو تخوف أو لباقة. كل هذا يسمى الانحلال.

لا شيء يشبه هؤلاء سوى الأفلام الرديئة عن العصابات، إذ تتم فيها المبالغة غير المقنعة في تسفيل الشخصيات الإجرامية، إلى حد غير واقعي. لكنهم هنا في لبنان شخصيات حقيقية. الواقع يصير أسوأ من فيلم رديء و"الأبطال" أسوأ من ممثلين رديئين.

غالباً، ما كنا نعرف أن أخلاق الميليشيات متغلغلة في المجتمع اللبناني، وليست حكراً على من هم في السلطة. كما أننا اعتدنا تاريخياً على تلازم الرشوة مع الإدارة العامة. وكنا قد أسلمنا أن منسوباً محدوداً من الفساد هو طريقة ملتوية في توزيع الثروة، خصوصاً في زمن "البحبوحة" والاطمئنان إلى مبدأ: دعه يعمل.. دعه يمر.

هذه الصفقة في تبادل المنفعة، كانت مشروطة أولاً بالوفرة والازدهار، وبحد أدنى من الضوابط القانونية وبشيء من الوازع الأخلاقي، على نحو يؤمن مصلحة الجميع ويوازنها. وهذا أوجد ثقافة

كان واضحاً منذ سنوات عدة أن الوجهة العامة للبلاد هي الكارثة، وأن الدولة ذاهبة إلى الإفلاس المالي

التعايش مع الفساد، خصوصاً أنه قائم على نوع من التقاسم الحساس بين الجماعات الطائفية، أو ما يعرف بـ"المحاصصة".

ما حدث في تساوق واحد خلال 15 سنة على الأقل، تراجع مضطرد للموارد الاقتصادية والمالية، وانخفاض الاستثمارات، وتفشي الفساد بمعدلات قياسية كسرت الضوابط والحدود على نحو فاحش وبالغ الوقاحة، وتحول التنافس السياسي – الطائفي إلى سباق محموم على النهب.

كان واضحاً منذ سنوات عدة أن الوجهة العامة للبلاد هي الكارثة، وأن الدولة ذاهبة إلى الإفلاس المالي. لكن الطبقة الحاكمة ولأنها أوليغارشية لا يمكنها سوى الإمعان في السرقة وتحويل المال العام إلى مال خاص اختلاساً. أي تحويل "الكارثة" إلى فرصة للإثراء.

الأهم من ذلك، أن الفساد بات فجوراً. وفي علم الاقتصاد، هناك عامل حاسم في النجاح أو الفشل لأي بلد، هو عامل الثقة، أو منظومة القيم التي تحكم أداء المجتمع. فالمعجزة الاقتصادية اليابانية مثلاً ليست سحراً أو صدفة تاريخية. بلد يفتقر إلى كل شيء: كثافة سكانية مع ضيق الأراضي الزراعية، عدم وجود المواد الأولية والمناجم وموارد الطاقة. لكن ما جعل اليابان ناجحة وقادرة على صنع المعجزة هي المنظومة الأخلاقية -الدينية لليابانيين، التي تقوم على التشدد بالاستقامة وعلى فكرة "عار" الفشل أو الكذب أو الغش، إلى حد أن موظفاً ما قد يقدم على الانتحار إن لحقته تهمة فساد.

"المعجزة الاقتصادية" هذه نلحظها في دول مثل كوريا الجنوبية أو هولندا، وهي قائمة على عوامل غير مادية ولا تلحظها العلوم الحسابية والاقتصادية البحتة، لكن بات معترف بها أنها حاسمة في تغيير وجهة الاقتصاد لأي دولة. إنها "الثقة" والقيّم الثقافية والأخلاقية التي يتبناها المجتمع.

وبالعودة إلى التسجيلات الصوتية المسربة للمسؤولين والموظفين الكبار في الدولة اللبنانية، نكتشف فقط الفجور والانحلال والوقاحة. الانهيار الأخلاقي إذاً، هو أقرب الطرق إلى الانهيار السياسي والاقتصادي.

ما نشهده في لبنان راهناً، شهدنا نماذجه الفاقعة والمثيرة للاشمئزاز والغضب مع عصابة أقرباء ليلى طرابلسي زوجة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، أو مع الفحش والاستباحة التي ميزت معمر القذافي وأبنائه وجلاوزته، ثم تكشف السلوك نفسه مع عائلة حسني مبارك وبعض رجال الأعمال المقربين منه. وقبل ذلك، رأيناه خلال حصار العراق لمدة 12 عاماً ببناء القصور والإسراف الأسطوري لصدام حسين وابنه عدي وحاشيتهما، فيما كان العراقيون في أبأس أحوالهم.. وتكرر الأمر بالعراق مع أضخم عملية فساد وسرقة في التاريخ المعاصر، حين تم نهب ما يفوق 400 مليار دولار في سنوات قليلة، ذهبت على الأرجح لتمويل "المشروع الإيراني" في المنطقة. أما أرصدة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح وأبنائه فلا تقل قيمة عن أرصدة باقي تلك العصابات في الدول العربية الأخرى.

ويتوضح هذا البلاء، الذي حطم مستقبل الشعوب ودمر فرصها الاقتصادية وبدد ثرواتها، في سوريا. فإلى جانب النهب المزمن والفساد الممنهج تم الفتك بحياة السوريين وعمرانهم على نحو أعاد البلاد إلى ما قبل الاقتصاد، إلى حال

الانتفاضتان اللبنانية والعراقية تقومان على طلب "محاربة الفساد".. أي استعادة المنظومة الأخلاقية وإعادة الاعتبار للقيّم

من الاستباحة بعدما انقلبت "الدولة" ذاتها إلى ما يشبه سلطة النهب الاستعماري. كما لو أنها "احتلال" قائم على السلب والسطو. فثقافة "التعفيش" تمثل مجمل السياسة الأسدية الاقتصادية. الفساد هنا رديف الإبادة. رديف الاستعمار المتوحش.

بهذا المعنى، الانتفاضتان اللبنانية والعراقية تقومان على طلب "محاربة الفساد".. أي استعادة المنظومة الأخلاقية وإعادة الاعتبار للقيّم، كشرط أول للإنقاذ الاقتصادي. وفي هذا المسعى ما هو أبعد من إسقاط نظام أو محاسبة فاسدين. إنه كتابة عقد اجتماعي سياسي جديد، وصوغ رابطة وطنية جديدة. وهذا ما توضح في الساحتين اللبنانية والعراقية: تجاوز الطائفية.

ربما، وبشيء من الأمل، يمكن القول إن الموجة الثانية من الربيع العربي ليست فقط "إسقاط النظام" كسلطة أو كطاغية أو حكومات، بل هي ثورة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.

كلمات مفتاحية