التّدويل وحكم القتلة

2021.07.18 | 06:18 دمشق

doc-p-735780-637330832334231489.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا مفر من تدويل الأمور في البلد. تتبنّى جهات لبنانيّة عديدة هذا الخطاب وتدفع به إلى الواجهة وتسوّق له على أنّه بوابة الحلول النهائيّة والمدخل السحريّ للخروج من الأزمات.

ولكن، وقياسًا على العادات اللّبنانيّة السّارية في مقاربة الشّأن العام، فإنّ طرح العناوين والشّعارات، لا يترافق مع شرح مضامينها والتّفكير في أبعادها وتفكيك إيجابيّاتها وسلبيّاتها.

المدافعون عن هذا العنوان يعتبرون أنّ الفساد قد طال كلّ بنى النظام اللّبناني. تاليًا فإنّه من المستحيل التّوصل إلى حقائق حول القضايا الكبرى الّتي حدثت في البلد من دون تدخل دّولي قضائيّ وأمنيّ، ويعتبرون أنّه في الإمكان استدعاء العالم ليلعب دور ضابط الإيقاع في البلد لصالحهم بشكل من الأشكال.

أبرز مدافع عن هذا التّوجه هو رئيس تيار المستقبل سعد الحريري الّذي اعتذر مؤخرا عن تشكيل الحكومة وعاد إلى قواعده الحزبيّة لقيادة معركة الانتخابات الّتي يعتقد أنّها ستعيده منتصرًا إلى واجهة المشهد.

وجه آخر لعنوان الوصاية الدوليّة يتمثل في دعم الجيش اللبناني بوصفه المؤسسة الأكثر ثباتًا وتماسكًا، والرّهان على قدرته على الإمساك بمقاليد الأمور في حال خرجت الأمور عن السّيطرة في البلد

حصل الفشل في تشكيل الحكومة لأنّ التّوقيت الإيراني لم يتطابق مع التوقيت الدولي ولأنّ الحزب يريد تسليما صريحا بنفوذه وليس عبر حيلة حكومة الاختصاصيّين. ما صرّح به الحريري في مقابلته مع قناة الجديد والّتي هاجم فيها حزب الله بعناوين فضفاضة ولامه على عدم التّدخل بشكل فعال للضغط في سبيل إنجاح تشكيل الحكومة لا يعني سوى أن مفهومه للتّدخل الدّولي هو لعب دور الوسيط مع الحزب.

وجه آخر لعنوان الوصاية الدوليّة يتمثل في دعم الجيش اللبناني بوصفه المؤسسة الأكثر ثباتًا وتماسكًا، والرّهان على قدرته على الإمساك بمقاليد الأمور في حال خرجت الأمور عن السّيطرة في البلد.

تلتقي المساعي الأميركية والفرنسية في هذا الصّدد مع جو شعبي يدعو إلى حكم العسكر، ربطًا بعناوين الضّبط والصّرامة والنّزاهة والقدرة على الحسم.

وبعيدًا عن سذاجة النّظرة الّتي تفصل واقع الجيش عن الواقع العام للبلاد فإنّ معنى وضع البلد تحت وصاية العسكر، يعني قبل كلّ شيء أنّ العالم يؤمن بأنّه لا مستقبل لفكرة دولة المؤسّسات والنّظام في البلد وأنّ سقوطه التّام بات وشيكًا. تاليًا فإنّ المهمة المناطة بالجيش هي أن يتحوّل إلى مؤسّسة إغاثيّة كبيرة مهمتها توزيع المساعدات، والفصل بين الجماهير الجائعة والمريضة والمنهارة.

دعم الجيش وتوكيله بإدارة شؤون المساعدات وعدم مرورها بالدولة تحت دعوى الفساد هو مقدمة لمشروع جمهورية الخيم المدوّلة، والتي لا مجال فيها لتفاضل مكوّن عن الآخر.

ما يشاع من أن اتفاقا وشيكا بين أميركا وإيران سيحقق لها انفراجا ماليًّا قد يمكنها من إعادة الصرف بسخاء على ميليشياتها المنتشرة في المنطقة ليس سوى وهم. العقوبات التي سترفع تتّصل فقط بالعنوان النّووي.

الأموال المتوقع أن يفرج عنها لن تكون كافية لتحقيق انفراج اقتصادي في الدّاخل الإيراني الذي يعاني من مشكلات حادة. يضاف إلى ذلك أن إدارة بايدن أظهرت أنّها لا تهتم كثيرا بربط الاتفاق النوويّ بعنوان الميليشيات والصّواريخ الدقيقة وهو نقطة خلافيّة حادة مع شركائها الأوروبيّين، ما يعني أن العقوبات الأوروبيّة ستبقى لا بل ستتمادى.

بناء عليه، لا انفراج متوقعّا لحزب الله في لبنان ماليًّا، وكذلك للميليشيات الخاضعة لإيران في كلّ المنطقة.

ولعل نقطة التلاقي الأعمق غير المعلن عنها بين إيران والأميركيّين هي ترك جماهير القتلة المدربين يمسكون بمقاليد الأمور في البلاد الّتي تتدخل فيها. تعتبر إيران بذلك أنها تبقي على نفوذها من دون دفع كلفة تمويل عبر ترك ميليشياتها تتموّل من النّهب الكامل لمقدرات البلاد، وأميركا تعتبر أنّ إغراق الميليشيات للبلاد سوف يتحول إلى أزمة تنفجر في وجهها ولن يمكنها الخروج منها.

الخراب الكامل للمؤسّسات والعمران والسّياسة والأمن هو العنوان الفعليّ للتّدويل

التّدويل في هذا المقام يعني التّسليم بهذا الواقع وإدارته وفق آليّة تحافظ على مصالح القوى الكبرى. إذا كان الحديث يجري عن تسليم أميركي بالنّفوذ الروسي على المنطقة انسجامًا مع منطق الانسحاب الميدانيّ والتّفرغ للشّأن الدّاخلي والصّراع مع الصّين، فإنّ خريطة تحقيق هذا النّفوذ لا يمكن أن تنجز إلا بتحويل لبنان إلى أنقاض على غرار سوريا الّتي أعلنت روسيا مؤخرا أنها اختبرت فيها أكثر من 320 نوعًا من الأسلحة.

عليه فإنّ الخراب الكامل للمؤسّسات والعمران والسّياسة والأمن هو العنوان الفعليّ للتّدويل. الأرجح أنه سيستبق بالسّماح لإسرائيل بضرب القوّة الصّاروخيّة الفعّالة لحزب الله الّتي يخبئها في الأماكن العامّة وفي غرف نوم اللّبنانيّين.

 لا أحد يبالي بالنتيجة المتوقعة لمثل هذا العدوان الإسرائيليّ الّذي تنضج ظروف منحه الشّرعيّة بشكل متسارع.

 يُرجّح أنّ تدمير كلّ البنية العامّة للبلد، والقضاء على القوّة الصّاروخيّة الفاعلة لحزب الله ما من شأنه التّسبّب بمجزرة كبرى تطول عموم اللّبنانيّين، ومن ضمنهم جمهور الحزب، ولكنّها لن تقضي عليه، بل ستفتح المجال لجماعته من القتلة المدربين لحكم البلد تحت رعاية دوليّة. لا يبدو أنّ أحدًا يمانع مثل هذا السّيناريو الّذي يبدو الأقرب إلى التحقق في القادم من الأيام.

لقد باتت صورة اللّبناني في العالم هي صورة الكائن الّذي يستحق الرّثاء والتّعاطف، ومن نافل القول إنّ هذه الصورة تستدعي فعلا يخرج عن الصّدقة والإحسان.

كلّ شيء يجري في البلاد الآن يتحدث عن أنّها صارت ماضيًا، وحتى الأغاني التي تستعاد على الشاشات توحي بفكرة بلد كان قائمًا وحيًّا. التّدويل يعني في نهاية المطاف تنظيم حكم القتلة وإدارة شؤون المجزرة بعد تفكك البلاد. إنه مقبرتنا العارية الخالية من الشّواهد.