التوحش الجديد في عالم ما بعد الكورونا

2020.04.10 | 00:07 دمشق

2020-04-09t134852z_1461337964_rc201g97vltf_rtrmadp_3_health-coronavirus-italy.jpg
+A
حجم الخط
-A

يظهر الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك في هيئة المغتبط إبان حديثه عن جائحة فيروس كورونا لأنها ستجبر العالم على الرجوع إلى حالة من الشيوعية. يستشهد بإجراءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة للتدليل على وجاهة ما يذهب إليه معتبرا أن الجائحة أجبرت العالم على زيادة الاعتماد على الدولة، وستؤدي لاحقا إلى حالات انكفاء في قلب البنى الرأسمالية السائدة.

لا يلقي جيجيك بالا إلى أن حالة الطوارئ التي أعلن عنها الرئيس الأميركي ترتبط بتحرير القيود على إنفاق الأموال، ولكن وجهة الإنفاق الأكبر الذي تم تخصيص الصرف الحكومي من أجلها صبت في صالح إنقاذ المؤسسات الاقتصادية  حفاظاًعلى ديمومة الوضع القائم وضمان استمراره وصموده، وتجهيزه للموجة اللاحقة، في حين خصص للأميركيين مصروف جيب عام بقيمة 1200 دولار.

يقع الالتباس أن ترامب كان واضحا في مساعيه وأهدافه، وكان قد صرح أن الأولوية للاقتصاد، وأن ضحايا أي خلل يصيب الاقتصاد سيفوق بما لا يقاس أي حصيلة متوقعة لضحايا الكورونا.

التدخل الذي يعتبره جيجيك ممهداً لنشوء نوع جديد من الشيوعية ليس سوى تسخير للدولة وإمكانياتها في خدمة نموذج اقتصادي، يرجح أن تزيد فظاظته وقسوته وتتعمق بناه الرأسمالية بعد الكورونا لأسباب عديدة ومتنوعة.

أبرز هذه الأسباب أن فترة انتشار الكورونا نشرت مناخا، يسمح للسلطات في أميركا بشكل خاص بتعيين الأشخاص والمؤسسات التي يمكنها أن تكون جزءا فعالا في النموذج الاقتصادي الذي سينشأ بعدها.

لاحظنا جميعا انتشار المقولات التي تقول إن الكورونا يقتل الكبار في السن وسط مناخ عام من المقبولية المتخففة من المحمولات الأخلاقية والاجتماعية ،ولكن تكرار تلك المقولات وتعميمها يعود إلى أنهم  قد باتوا خارج دائرة الفعالية الاقتصادية. بعد ذلك شهدنا موجات عنصرية وتنمر تطال أعراقا وشعوبا، أو محاولات لاستخدام الإفريقيين كوقود لتجارب ميدانية لتطوير لقاح حاولت مؤسسة بيل غيتس تمريرها وجوبهت برفض حاد.

يمارس العالم حاليا لعبة إقصاء تشبه في بنيتها منطق الإبادات. اقتصاد ما بعد الكورونا يحرص في هذه اللحظة على تحديد ضحاياه ومن يجب طردهم من عالمه. بدأ بالمسنين وأتبعهم بمرضى التوحد  ليس لأنهم غير فاعلين ولكن لأنه لا يمكن إدراجهم في عداد مستهلكي نوع الاقتصاد الجديد، الذي أثبت فاعليته في زمن الكورونا وهو الاقتصاد الميال إلى الاعتماد بشكل كامل على البنى الافتراضية. الفئات والأشخاص الذين استمرت فاعليتهم الاقتصادية بل توسعت في ظل الجائحة هم الذين يعتمدون بالكامل على العمل ضمن الشبكات الافتراضية، ما يعني أن نزعة تصميم دفق اقتصادي متواصل والتي تسيطر على ذهنية الدول الكبرى ستذهب في تدعيم هذا المجال وتمكينه.

يمارس العالم حاليا لعبة إقصاء تشبه في بنيتها منطق الإبادات. اقتصاد ما بعد الكورونا يحرص في هذه اللحظة على تحديد ضحاياه ومن يجب طردهم من عالمه

قد نشهد على عكس طموحات جيجيك موت المعمل والمصنع، ومزيدا من الاعتماد على الآلات والروبوتات والعمل الذي لا يحتاج إلى يد عاملة ولا إلى مكان عمل. ملايين الأشخاص المرشحين لفقدان أعمالهم سوف يخرجون من دائرة الاقتصاد وتاليا من دائرة الوجود. وهؤلاء لن يكونوا قادرين على تشكيل بنى عالم شيوعي أو حتى تشكيل بنية سياسية فاعلة لأنهم لا يملكون القدرة على الدخول في دائرة الملاحظة، أو ممارسة أي ضغط على آلة الاقتصاد العملاقة الجديدة التي لفظتهم والتي يمكنها الاستمرار من دون الحاجة إليهم.

هكذا سيفقد المطرودون من جنة الاقتصاد الافتراضي الذي يطل برأسه ليسيطر على عالم ما بعد الكورونا القدرة على التأثير على انتظام العمل وسيره ولا يبقى لهم سوى اللجوء إلى العنف العاري الذي لا يهدف سوى أن يكونوا مرئيين. من هنا  يمكننا القول بمرارة إن موتى الكورونا ربما يحظون بامتياز خاص قد لا يتيسر لغيرهم من الضحايا وهو أنهم آخر موت موثق ومعترف به ولو من ناحية إحصائية رقمية، في حين أن موتى الجوع وفقدان العمل والبطالة لن يحظوا أبدا بهذه الفرصة، بل سيموتون في العمى والتجاهل.

لقد تم تكريس الكورونا حاليا بوصفه القاتل فكفت السياسات والحروب عن أن تكون قاتلة، ولكن ضحاياه يمتلكون فقط الحق في التوثيق الذي نعلم أنه لا يعكس في أي دولة الرقم الحقيقي، ولكن الدول تعمد إلى التصرف بوصفها ولي الدم في هذه الحالة. حروب تحميل المسؤولية المتقاذفة بين الدول ستمهد لشرعنة أي حرب ستقام لاحقا بنية التأر لمواطنيها التي كانت قد قتلهم مسبقا بإهمالها ولعل هذه هي الفائدة التي ترتجى من هؤلاء الضحايا.

تنتشر في الصحافة الأميركية  قراءات تعتبر تفشي الفيروس في أميركا هجوما مماثلا ل11 أيلول، ما يعني أن دم العالم لا بد أن يراق لاحقا، ولكن هذا الدم هذه المرة سيكون اقتصاديا.

تعتمد الصين في سعيها لاحتلال موقع متميز في خريطة الاقتصاد الجديد على لعبة تسويق نموذج احتواء الأزمات، الذي نجح وفق ما أعلنته مؤخرا في الوصول إلى حالة لم تنجح أي دولة في تحقيقها، وهي حالة صفر وفيات في يوم واحد.

تعلن الصين ذلك في لحظة توقف فيها دفق المعلومات وبتنا أمام حالة يمكن وصفها بالتعتيم المطلق، يتعامل الجميع على أساسها بتفاوتات لا تذكر.

لا يمكن الركون إلى أي معلومة تصدر عن الدولة الصينية، ولا يمكننا الوثوق بأي بيانات رسمية تصدرها الدول عن أعداد الإصابات والوفيات، ولكن بغض النظر عن ذلك، فإن الخطاب الذي تحرص الصين على تسخير كل طاقاتها من أجل تعميمه وإنفاذه لا يعدو كونه طريقتها الخاصة في الحرب ضمن منطق الاقتصاد الجديد.

تؤمن أن  تسويق نموذجها في احتواء الأزمات سيمنحها مكانة عالمية، تتوقع أن يكون لها تأثير ضخم على الاقتصاد، وخصوصاً مع تقدم سيطرة النموذج الجديد منه الذي يعطي الأولوية المطلقة للسياقات الافتراضية.

هذا العالم الافتراضي الذي سيبنى عليه الاقتصاد الذي بات واضحا أنه يشكل المفهوم الملك الذي تتناسل منه المفاهيم، يتناسب تماما مع موجة جديدة وعاتية من الديكتاتوريات والشموليات؛ لأنه يعمل قبل كل شيء على إغلاق المكان العام وتحويل العزلة والانقطاع عن التواصل الاجتماعي الفعال مع الآخرين إلى سياق وظيفي ومهني.

هذا السياق من شأنه أن يجري تحولات عميقة في بنية السياسة وفي مفهوم الحركات الشعبية والجماهيرية، وحتى إنه يفترض أن تتخذ الاعتراضات أشكالا جديدة لن يكون من السهل إنجازها.

والنموذح الجديد لا يسمح بالاعتراض، لأنه لا يمنح الاعتراف بمن يقيمون خارج منطقه الذي يعمل على تحويل العالم إلى كهوف، يعمل في داخلها كهنة تكنولوجيا فائقة تحوّل العالم إلى متحفٍ حيّ للعزلة.

كلمات مفتاحية