تتهم واشنطن القيادة الروسية بأنها تدوس كل الاتفاقيات والمعاهدات والنصوص الأممية والدولية المتعارف عليها والمعتمدة من قبل المجتمع الدولي في مسائل احترام سيادة واستقلالية الدول وقبول حدودها المعترف بها أمميا. وترفع واشنطن بشكل تصاعدي مستوى زيادة العقوبات على الكرملين الذي يغرد خارج السرب منذ إعلان حربه على أوكرانيا والتوغل داخل أراضيها في 24 شباط المنصرم.
في حالة مشابهة تتهم القيادات التركية في الحكم والمعارضة على السواء الغرب بعدم التردد في دعم القبارصة اليونانيين للخروج عن كامل القرارات السيادية والحقوقية في الجزيرة، بما يتعارض مع اتفاقيات لندن وزيورخ عام 1959 التي أعطت الدول الضامنة الثلاث تركيا واليونان وإنكلترا حق التدخل بشكل منفرد أو جماعي لحماية نصوص هذه الاتفاقيات.
الأسوأ كما تقول أنقرة حدث في العام 2004 بعد خديعة الغرب للقبارصة الأتراك في استفتاء الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان والتعهد بفتح الطريق أمام تسوية سياسية لأزمة عمرها أكثر من 60 عاما خرج القبارصة اليونان عن تفاهماتها. الغرب كافأ قبارصة الجنوب مرة أخرى بعد عام، بفتح الطريق أمامهم للالتحاق بالاتحاد الأوروبي كممثلين للجزيرة دون أخذ رأي قبارصة الشمال في ذلك.
الغرب نفسه يتحرك من جديد ولكن بإشراف أميركي هذه المرة للتخلي عن الحيادية المعتمدة طيلة 35 عاما في التعامل مع مسائل الجزيرة والاستعداد لرفع الحظر عن صادرات السلاح الذي تريده نيقوسيا كهدية لها على رفضها دخول السفن الروسية موانئها ووقوفها في مواجهة النفوذ الروسي في شرق المتوسط وتضييق الخناق على حركة أموال رجال الأعمال الروس، ومحاولة الاستفادة من فرص مصارف جنوب الجزيرة لتبييض عشرات الملايين من الدولارات.
لا أحد يعرف بالتحديد إذا ما كان قد حدث أي اتصال هاتفي بين الرئيسين التركي والأميركي في الأشهر الثلاثة الأخيرة. لكن الجميع يعرف أنه منذ آواخر تموز المنصرم وحتى اليوم تم عقد 3 قمم تركية روسية وجرى أكثر من 5 اتصالات هاتفية معلنة بين الرئيسين التركي والروسي. آخر مواجهة في نقل الأحجار على رقعة الشطرنج كانت مع انتشار الصور التذكارية لأردوغان في قمة شنغهاي جنبا إلى جنب مع الرئيسين بوتين ورئيسي، والرد الأميركي عليها عبر قرار إلغاء الحظر على إرسال السلاح للقبارصة اليونانيين اعتبارا من مطلع العام 2023. ثم رسالة أردوغان بقبول التحدي وإعلان أن هدف تركيا النهائي هو العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي. وأن أنقرة سترد حتما على الخطوة الأميركية الأخيرة في جنوب قبرص. فما الذي يدفع إدارة الرئيس بايدن لتغيير سياستها القبرصية والإقدام على قرار استراتيجي بطابع سياسي وعسكري من هذا النوع يغضب أنقرة مرة أخرى بعد قرار زيادة الدعم العسكري لليونان؟
القبارصة اليونانيون وأثينا يهديان جغرافيتهما السياسية والعسكرية اليوم للنفوذ الأميركي مقابل "حمايتهما" من الغضب الروسي والتركي المتزايد
تعلن القيادات التركية والأميركية عن تمسكها بالعلاقات الاستراتيجية مع الطرف الآخر. وتتحدث باستمرار عن 7 عقود من التعاون والتنسيق وأنه لا مشكلة بين البلدين مستعصية عن الحل. لكن القبارصة اليونانيين وأثينا يهديان جغرافيتهما السياسية والعسكرية اليوم للنفوذ الأميركي مقابل "حمايتهما" من الغضب الروسي والتركي المتزايد. حرب المواقع التركية الأميركية متواصلة بشكل تصاعدي وجاهزة للانفجار في كل لحظة. المواجهة لن تكون بالضرورة بين أنقرة وواشنطن، لكنها ستكون حتما في المناطق الرمادية اللون المحسوبة على مصالح ونفوذ البلدين. في سوريا والعراق وشرق المتوسط وإيجه وقبرص وجنوب القوقاز مثلا.
لم تدخل أنقرة في مواجهة مع الغرب في العقدين الأخيرين بسبب الملفات الساخنة في قبرص وإيجه وشرق المتوسط ورغم كل التوتر والتصعيد. الهدف كان دائما إبقاء الأمور تحت السيطرة ومحاولة الحلحلة أمام طاولة التفاوض. لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقول إن أميركا تشجع القبارصة اليونانيين وأثينا من خلال قرار رفع الحظر عن السلاح بتهديد السلام والاستقرار في شرق المتوسط. رسالة أردوغان الأهم هنا هي إعلانه أنه على المجتمع الدولي أن يمهد الطريق لحل القضية القبرصية من خلال الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية وحل الدولتين. وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوجز ما يجري بقوله إن أميركا كانت تتبع سياسة متوازنة مع تركيا واليونان، لكنها بدأت الابتعاد عن هذه السياسة في العامين الأخيرين وأصبحت تنحاز لليونان. "سنرد بخطوة ملموسة على قرار واشنطن، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة من أجل حماية قبرص التركية والقبارصة الأتراك".
أنقرة سترد على خطوة واشنطن برفع حظر السلاح عن قبرص اليونانية وعن دعم تسليح الجزر اليونانية بما يتعارض مع اتفاقيات لوزان وباريس ورفع عدد القواعد العسكرية الأميركية في اليونان إلى 9 حيث المعني هنا هو تركيا قبل روسيا. الرد التركي لن يكون فقط في إطار التلويح بزيادة الدعم العسكري للقبارصة في شمال الجزيرة، ورفع عدد الجنود الأتراك الموجودين في الجزيرة والذين يصل عددهم اليوم إلى 40 ألفا. هناك مطالبة تركية جديدة لمجلس الأمن الدولي بالتحرك الفعلي لحل الأزمة وإلا فإن الكرة ستكون في ملعب الجمعية العامة وطرح موضوع الاعتراف بدولة قبرص الشمالية الذي سيساهم بتسريع حل المشكلة كما تقول أنقرة.
قناعة تركية أخرى تتعلق بنشر الاستخبارات العسكرية التركية صور نقل أسلحة ثقيلة إلى جزيرتي سيسام وميدللي في إيجه. المعني هنا هو أميركا لأن السلاح هو أميركي الصنع والسفن المستخدمة هي من طراز أميركي أيضا. واشنطن تقول لأنقرة إنها ستشترط عليها عدم استخدام المقاتلات الأميركية التي قد تزودها بها ضد أثينا والقبارصة اليونان لكنها تفتح الطريق أمام الجانبين لمواجهة تركيا عسكريا على الجبهتين القبرصية واليونانية. ازدواجية معايير أميركية واضحة لن تقبل بها تركيا.
الخطوة الأميركية تهدف حسب تركيا الإمساك بورقة الطاقة الغازية في الجزيرة والإشراف المباشر على عمليات الاستخراج والتصدير، وتسريع الانفجار العسكري في شرق المتوسط
القرارات والمواقف الأميركية الأخيرة كما ترى القيادات التركية لم تبق أحدا أمام الطاولة لا في جانبي قبرص ولا في أنقرة أو أثينا. الكل في الميدان يستعد عسكريا لكل الاحتمالات. الحرب في قبرص وإيجه هي الأقرب وهذا ما تريده واشنطن حسب الكثير من الخبراء الأتراك بهدف توريط أنقرة في مستنقع الحروب والأزمات وإضعاف أوراقها الإقليمية والدولية، وتبرير التباعد والقطيعة الغربية مع تركيا. لا بل هناك من يقول أكثر من ذلك في أنقرة. واشنطن تتحرك منذ سنوات باتجاه التحضير لتحويل جنوب قبرص إلى مستودع أسلحة أميركية متطورة وقاعدة انطلاق لقواتها في شرق المتوسط وهي من أجل ذلك جهزت الأرضية العسكرية المناسبة عبر إعادة بناء مدرجات حربية في مطارات قبرص اليونانية تتمكن من تسهيل هبوط وإقلاع أسراب مقاتلة دفعة واحدة، ودربت وحدات قتالية هناك على استخدام صواريخ متوسطة المدى تصل إلى 350 كلم وتفعيل "القبة الحديدية" الإسرائيلية في سماء قبرص اليونانية.
الخطوة الأميركية تهدف حسب تركيا إلى الإمساك بورقة الطاقة الغازية في الجزيرة والإشراف المباشر على عمليات الاستخراج والتصدير، وتسريع الانفجار العسكري في شرق المتوسط وبحر ايجه وجر أوروبا إلى هذه المواجهة بشكل مباشر بعدما فشلت حتى الآن في توريطها بالصراع في أوكرانيا.
مفارقة غريبة عجيبة حسب استطلاعات الرأي التركية واليونانية الصادرة مؤخرا تقول إن غالبية كبيرة في البلدين ترى في شعب الطرف الآخر جارا صديقا وتستبعد خيار المواجهة العسكرية بين أنقرة وأثينا. من يعطي واشنطن إذا فرصة توزيع الهدايا على قبرص اليونانية وأثينا بعد التحاقهما بخطوات الحظر الغربي ضد روسيا في العلن، وحيث يكون المستهدف الأول هنا هو أنقرة بثقلها ونفوذها في شرق المتوسط؟ وكيف ستخرج أميركا من تهم محاصرة تركيا بدائرة من النار في الجنوب والغرب بعدما فشلت في فعل ذلك من الشرق والشمال، ومحاولة جر الجميع في شرق المتوسط وإيجه إلى مواجهة عسكرية واسعة تمكن واشنطن من خلط الأوراق والإمساك بخيوط اللعبة التي خرجت عن إرادتها في الأعوام الأخيرة؟