icon
التغطية الحية

التهكّم المسرحي في تفكيك الأداء والتلقي بين الحضور وأنماط اللجوء

2022.05.20 | 09:39 دمشق

msrhyt_rdwa_wray-_tlfzywn_swrya.jpg
من مسرحيتي: "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" و "رجاء عيدوا وراي"
+A
حجم الخط
-A

في العام 1921، في مسرحيته (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) ابتكر المسرحي (لويجي بيرانديللو) تلك الحبكة التخيّلية التي تبدأ بشخصيات مسرحية في حالة البحث عن المؤلف الخاص بها. تدخل الشخصيات إلى بروفات الفرقة المسرحية بحثاً عن مؤلف يكمل لها مصيرها وينهي حكاياتها العالقة في ثبات بعد وفاة كاتبهم الأول.

الحكاية المسرحية بين الذات التخييلية والذات الحقيقية

حضور فكرة انفصال شخصيات تخييلية عن حكايتها الأصلية أو عن مبتكرها في الأدب، سينتج عن تطبيقها في المسرح تلك المفارقة بين الذات الإنسانية والذات المسرحية. وستسمح لبرانديللو التعبير عن أساس فلسفته في استحالة قولبة الذات بصورة ثابتة، ومن ثم استحالة تواصل الأنا المنفردة مع العالم من حولها.

يكتب (محمد إسماعيل محمد): "يكشف فن برانديللو عن التناقض بين الحياة والصورة. فالحياة لكي تتشكل لا بد لها من صورة ثابتة، ومن ثم يكون التناقض والصراع الدائم بين ضرورات الحياة الديناميكية ومتطلباتها الإستيكية. فالحياة نوع من التناقض الجدلي بين الحركة والصورة"[1].

ومن هذا المنطلق، يأتي تساؤل الكاتب والمخرج (زياد عدوان) في عرضه (رجاء عيدوا وراي، 2018)، عن الصورة النمطية التي تحكم العلاقة بين اللاجئ/ة والجمهور في مسرح شهادات اللجوء، وكيف أمكن للجمهور تحقيق زاوية رؤية ثابتة، بينما الشخصية والذات في عملية صيرورة؟

 

thumbnail_من عرض (رجاء عيدو وراي) تصوير theresa scheitzenhammer (2).jpg
من عرض (رجاء عيدو وراي)

 

يتابع (محمد إسماعيل): "تناول بيرانديللو الشخصية الإنسانية، وهل هي في حقيقتها كما يراها الإنسان من داخل نفسه أو كما يراها الآخرون. الإنسان لا يعرف إلا الحاجة المستمرة إلى ضرورة ملاءمة كيانه مع صورة ما من صور الحياة. وتصل المأساة ذروتها حينما يدرك عجزه في التواصل مع بني جنسه، حيث تختلف معاني وقيم الأشياء لدى الشخص عن معاني وقيم الأشياء لدى الآخرين من حوله"[2].

جدلية الأداء والتلقي في التفاعل والتهديم

ومن هذه البنية التأليفية تتشكل الحركة الأساسية الذهنية والفنية في عرض (رجاء عيدوا وراي)، وهو مسرح الفكر الساخر في حركة بناء وتلقي وتحليل وإعداد وتفكيك مستمرة، والغاية الأساسية التي ألف عليها العرض هي تفكيك مسرح الشهادات الذي يقدم تجارب وحكايات اللاجئين الشخصية إلى الجمهور الأوروبي أو أي جمهور آخر. فالإشكال هو الهويات الثابتة: مؤدي شاهد لاجئ/ جمهور متفرج أوروبي. يبدأ العرض والمخرج على المسرح يقدم للجمهور فكرة العرض المسرحي، حيث يتطرق المخرج في مقدمته الأولى إلى العلاقة بين الواقع والتخييل: "أصبح الواقع غريباً لدرجة أنه يصعب على الفنان والمسرح تجسيده تخييلياً أو فنياً. أما سورية التي أتيت منها فهي أيضاً أصبحت نوعاً من التخييل، ونحن أنفسنا أصبحنا ضرباً من الخيال بتلك الطريقة التي ننمط بها بين الرقص الشرقي والإرهاب"[3]. كذلك عالج بيرانديللو في مسرحه العلاقة بين العالم الفني والعالم الواقعي، فقد عالج في ثلاثيته (المسرح داخل المسرح) مسألة أي العالمين أشد حقيقة: عالم الواقع أم عالم الخيال، العالم المادي الزائل أم الإبداع الفني الباقي، الحيثية الاجتماعية الفانية أم الشخصية المسرحية الخالدة. وتؤكد هذه الثلاثية ـ من وجهة نظر المترجم ـ في كل حلقة من حلقاتها أن عالم الفن أثبت من عالم الواقع، وأن الوهم أصدق من الحقيقة، وذلك من خلال الصراع الذي ينشأ بين مختلف العناصر المشتركة في العمل الفني.

في مسرحية (بيرانديللو) يحتدم الصراع بين الشخصيات المسرحية من جانب والممثلين من جانب آخر، الشخصيات المسرحية تدرك أنها ولدت حية، وتتشبث بالبقاء على هذه الحيوية، لكن الممثلين ليقدموها على المسرح عليهم أن يقلدوها، أن يعطوا الشخصيات الحيوية شخصية ثابتة، نتيجة التقليد الذي يمسخ الهوية المتغيرة ويحنط الجوهر. وفي (رجاء عيدوا وراي) يدخل كلّ من: (عرماج وحلا وصباح وريم) إلى المسرح مرتدين أزياء غير رسمية، مع تفاصيل شرقية خفيفة. أما (ريم) فترتدي الحجاب الذي يغطي شعرها فقط. وجوه الممثلين معروضة على الشاشة. وبعد دقيقة واحدة يحدث خطأ تقني. تتوقف الشاشة مؤقتًا. الأضواء تخفت والموسيقا تتوقف. يواصل الممثلون تسلسل حركتهم كما لو لم يحدث شيء. تنطفئ الأنوار مرة أخرى بينما الممثلون لا يزالون على المسرح. يدخل المخرج (زياد) إلى الخشبة مجدداً ويتحدث للجمهور: "نحن آسفون جدا! يبدو أن هناك صعوبة فنية بسيطة. صبرك من فضلك! ونحن نعتذر! لا حاجة للمغادرة. سوف نصلحه بسرعة"[4].

 

من مسرحية 6 شخصيات تبحث عن مؤلف.jpg
من مسرحية 6 شخصيات تبحث عن مؤلف، لـ بيرانديللو

 

تتفكك أحداث العرض المسرحي بين التخييل والحدث الواقعي أمام المتلقي، وتتفكك الشخصيات المسرحية لتتداخل ذوات الممثلين/ات وذوات الشخصيات، فحسب مسرح بيرانديللو كل ذات في حالة تغير وتبدل مستمر، ولكل ذات قيم ذاتية متبدلة وباطنية. يقول الأب في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف): "كل واحد منا لديه عالم كامل في نفسه، وكل واحد منا لديه عالمه الخاص! فكيف يفهم بعضُنا بعضاً؟ إذا كنت أضع في كلماتي التي أقولها معاني وقيم الأشياء كما أفهمها في عالمي أنا، بينما يفترض من يستمع إلي، أن كلماتي لها المعاني والقيم الخاصة بعالمه هو". تتركز هذه العلاقة بين الأنا والصورة النمطية المفروضة عليه في الأغنية التي تؤديها شخصية (هالة) في مسرحية (رجاء عيدوا وراي)، فتغني بالإنكليزية:

"أنا خلقت لطير كتير

أول لاجئ بيصير كبير

وعدوه الأول هو المصير

هيك بلشت حكاية كل فقير

ما اعتقدت أبداً أني سأكون غنية

لم أتخيل أبداً أن سمكة ستأكلني

لقد ولدت لأهرب من البحر

والمرة الوحيدة التي حسدت فيها شجرة

عندما لعبنا مباراة بدون حكم

هذه حياتي كلاجئة"[5].

التراجيديا والكوميديا في تفكيك الهويات النمطية

يتداخل التراجيدي بالكوميدي، وكما تقول إحدى شخصيات (كل شيخ له طريقته، 1924، بيرانديللو): "هذه طريقتي في الضحك، وأن ضحكي يؤلمني أكثر من أي شخص آخر". هذه النزعة الدعابية عند بيرانديللو، تبرهن على أنه يمكن للإنسان أن يحمل في داخله في الوقت ذاته القدرة على الهزء والقدرة على التعاطف. إن الدعابة عند بيرانديللو هي الاتحاد الرائع بين الضحك والأسى. ويظهر ذلك بالشكل الأمثل عند شخصية الحكواتي[6] في (رجاء عيدوا وراي)، التي تكتب عن تمازج عنصر التراجيديا والكوميديا فيه الباحثة (وديعة الفرزلي):

"اعتمد العرض الأسلوب التهكّميّ على الصورة النمطيّة في ذهن المتلقّي، لكنْ في الوقت ذاته، كان هذا الأسلوب التهكّميّ ممزوجاً بمرارة قصص الشخصيّات وألمها، بحيث يشعر المتلقّي بعدم القدرة على الخروج بتوصيفٍ، أو معلومةٍ تخصّ هويّة هؤلاء الممثّلين والممثّلات، كما أنّ بنية المسرحيّة ككل، بالشكل الذي كان من المفترض أن تكون عليه، والشكل الذي آلت إليه بعد حدوث الخطأ، هو أيضاً شكلٌ من أشكال التهكّم على المسرحيّات الدراميّة والواقعيّة التي يكون أبطالها/بطلاتها لاجئين ولاجئات يقدّمون قصصهم، ويقفون أمام الخشبة موضع العرض المسرحي".[7]

 

thumbnail_من عرض (رجاء عيدو وراي) تصوير theresa scheitzenhammer (1).jpg
من عرض (رجاء عيدو وراي)

 

يأتي خطاب الشخصيّات مناقضاً لصورة ما في ذهن المتلقّي، كما في وصف الجانب الحميميّ من الحرب في مونولوج عرمج، الذي تبدو الحرب بالنسبة إليه هي الجنّة. كلّ ما عليك فعله هو النجاة من الموت، قضاء الوقت في البيت، مع الأصدقاء، مشاهدة الأفلام، تدخين الحشيش، ممارسة الجنس، لعب الورق، وغيرها من الأنشطة التي يمكن أن تحدث ضمن الفضاء الخاصّ، بعيداً عن إثارة الصور التراجيديّة للحرب والدمار التي تبثّها نشرات الأخبار والصحف مثلاً.[8] ويحضر أيضاً بتهكمية التداخل بين الحلم والواقع عند شخصية (هالة) التي تقول: "استيقظت من حلم واكتشفت أنني لا أحلم، حلمت بنفسي أنام مرة أخرى. ووجدت مسجل مخفي تحت الوسادة، يريدون الاستماع إليّ عندما أنام. لا أعرف ما إذا كانوا يريدون أيضًا معرفة ما أحلم به". ويتداخل الصدق والتلفيق فيما ترويه عن حكاية النجاة من القناص، فهي بدايةً لا تتذكر الحكاية حتى تذكرها بها أختها: "نعم، نعم! الآن أتذكر، كانت حواسنا هي التهديد الحقيقي ضدنا. كانت أختي ضعيفة، ولم تستطع التعامل مع حواسها. اضطررنا إلى الهرب، هربنا من سماع أصوات الرصاص وصراخ الأبرياء. هربنا من رؤية قناص يحدق بنا. تجنبنا لمس الجدران المحترقة. هربنا من الرائحة"[9].


[1] - ثلاثية المسرح داخل المسرح، ست شخصيات تبحث عن مؤلف، كل شيخ له طريقته، الليلة نرتجل، لويجي بيرندلو، ترجمة محمد إسماعيل أحمد، مراجعة حمادة إبراهيم، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، من المسرح العالمي العددان 359-360 / 2012، ص10.
[2] - المرجع السابق، ص15.
[3]  ترجمة بتصرف من العرض المسرحي.
[4] - ترجمة بتصرف من العرض المسرحي.
[5] - ترجمة بتصرف من العرض المسرحي.
[6] - للتوسع في قراءة شخصية الحكواتي في عرض (رجاءً عيدوا وراي)، يمكن العودة إلى المقال: "الحكواتي المتمرد على تراث المسرح.."
[7] - فرزلي، وديعة، مسرح اللجوء السوري في ألمانيا، إشراف دكتورة ماري إلياس، منشورات اتجاهات ودار ممدوح عدوان، 2022، ص55.
[8] - المرجع السابق, ص67.
[9] - بتصرف.