icon
التغطية الحية

التهكم الأسود في قصصٍ تُعرِي واقع سوريا الحزين

2021.01.28 | 16:28 دمشق

atatat.jpg
+A
حجم الخط
-A

الكتاب: ضحك عابر في بلاد الحزن الدائم.

مجموعة قصصية.

المؤلف: فارس الذهبي.

الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر 2020

ينجح القاص "فارس الذهبي" في تحقيق العنوان المفاهيمي-الأسلوبي الذي وعد به قراءه، في مجموعته القصصية الثالثة، المعنونة: "ضحك عابر في بلاد الحزن الدائم"، وهي خمسة نصوص قصصية مؤلفة لتحقيق المفهوم الذي أُسست عليه المجموعة وهو الضحك العابر، في بلاد كسورية، التي تعيش الحزن الدائم.

والقاص من خلال نصوصه الخمسة يحاول العثور على الحكايات والأساليب التي تحقق له هذا المفهوم، الضحك في زمن الحزن، الكوميديا في حتمية طغيان التراجيديا، السخرية في مراحل طغيان الجدية.

على طول القصص الخمسة، نتلمس هدف الكاتب أو مخططه في البحث عن الكوميدي، الهزلي، الضاحك في تجربة المجتمع السوري المأساوية. هذا الهدف أو هذه الغاية تتطلب مجموعة من التقنيات الأدبية والسردية التي التزمها الكاتب في أسلوبه القصصي.

الصحافة والثقافة في منظور التهكم القصصي:

القصة الأولى بعنوان "الجمعية الأدبية فوق السطح" تدخل في العوالم الأوساط الثقافية في سورية، من خلال المقارنة بين صديقين كاتبين، الصحفي الناجح فاروق الذي يكتب في كبريات الصحف العربية والذي يحصل على أجر بالدولار في لقاء مقالاته، والصحفي المحلي الذي ينشر في الصحف الوطنية، المغمور، والراغب أن يصبح شاعراً. ومن خلال هذه الحكاية يدخل القاص في تحليل المعايير السائدة في المؤسسات الثقافية، وأنواع المثقفين من أولئك المكرسين بحكم المنصب والعلاقات وبين أولئك الطامحين سواءاً الإنتهازيين منهم أم المجدين، بخفة وسلاسة يمرر الكاتب عباراته النقدية لواقع الثقافة السورية: "هكذا هي الدول التي تدعى الإشتراكية في الشرق، عائلة كبيرة جداً، وكعكة صغيرة يتقاسمها الجميع، وهي لا تشبع أحداً".

اقرأ أيضاً: الأجندة.. رواية تحكي كيف انكسرت الثورة قبل بدايتها

ونتابع حكاية الشاعر الذي يحاول الانتقال من مرحلة إلى أخرى في تجربته الشعرية، تسنح له فرصة موعد للقاء "عبد المنعم حسكيرو"، أحد كبار عتاة الصحافة في البلد.

تفتح احتمالات القصة على تناول الوضع الثقافي والواسطات في المجال الثقافي السوري، وكذلك توجه القصة السخرية لواقع الصحافة السورية

 يُعنى القاص برسم شخصية الشاعر في قصته بمفارقة كوميدية، حيث يجعله مصاباً برهاب الوقوف أمام التجمعات، هو مدرك ذلك، ويحاكمه في مونولوجاته الداخلية: "من يصدق أن هناك شاعر يظن نفسه شاعراً وهو مصاب برهاب الجمهور".

وبذلك، تفتح احتمالات القصة على تناول الوضع الثقافي والواسطات في المجال الثقافي السوري، وكذلك توجه القصة السخرية لواقع الصحافة السورية: "اشتريت جريدة الثورات العربية، الناطقة بإسم الحزب الحاكم حينما فتحت الجريدة طالعتني على الفور الأعلام الحمراء والأيدي المقبوضة الغاضبة، وشعارات النضال والكفاح"

كما هو الحال مع شخصيات غوغول، أو بعض شخصيات تشيخوف وكذلك عند كافكا في تطور حبكة الشخصيات وأزمتها من معضلة بسيطة وتافهة لتتوسع إلى أزمة وجودية أو اجتماعية، فبعد اللقاء الأول بين الشاعر المغمور والإنطوائي والصحفي المكرس ثقافياً، يحدث تبادل في الحقائب، ليكتشف الشاعر المغمور أن الصحافي المكرس يقرأ قصيدته (في مثل جنون الموت) التي وجدها في الحقيبة، والتي كتبها الشاعر لمحبوبته، غزلاً بجسدها: "لم يكتف الأستاذ بنهب قصيدتي، بل نهب إحساسي بها، مشاعري العاطفية التي حولتها لقصيدة في ذلك اليوم، ولم يتبق إلا أن يسرق قبلتي التي اختلستها سراً". تبين القصة القيم النقدية الفارغة والزائفة، التي يتم الحكم على أسسها على الإبداعات الأدبية والشعرية، وعبر الخطأ الكوميدي تتعرى الصحافة الثقافية أو تقديس بعض الشخصيات الشعرية.

النظام التعليمي في خدمة الحشود الجماهيرية:

تنتقل بنا القصة الثانية "حينما التقيت جاك شيراك" إلى التسعينيات مروية بلسان أحد طلاب المدارس، وهي إلى الزيارة التاريخية للرئيس الفرنسي (جاك شيراك) إلى سورية، وتعكس هذه الحادثة من زواية طلاب المدارس الذين أجبروا على الخروج إلى الشوارع في تظاهرة استقبال الرئيس الفرنسي.

تناول الحادثة التاريخية نفسها الرسام "محمد عمران" والكاتب "عدي الزعبي" في كتابهما (جمهرة) الذي يتناول مفهوم التجمهر في الثقافة السورية. أما قصة فارس الذهبي فتبدأ من الموجه المدرسي: "من دون استئذان دلف الموجه إلى الصف وقاطع الدرس قائلاً: نحن نريد عدداً من الطلاب الذين يرفعون رأس الوطن عالياً، نريد من يتحدث القليل من الفرنسية على الأقل حتى نذهب لاستقبال الرئيس جاك شيراك، صديق سورية من المطار الدولي، وبعدها انقلبت المدرسة رأساً على عقب، وتحول الجميع إلى شخصيات اجتماعية منفتحة على الآخر".

اقرأ أيضاً: "سورية الأخرى".. كيف ضبط النظام الفن المعارض واستفاد منه؟

بأسلوب تهكمي تأخذنا القصة إلى الأروقة الإدارية للمدارس السورية: "هكذا صعدنا إلى حافلات النقل الداخلي التي جلبت خصيصاً لنقلنا من المدارس إلى المطار، وما أنطلق السائق حتى بدأ الغناء والرقص من الطلاب".

لكن رئيس الشعبة وحين يصعد إلى الباص يكسر الدربكة صارخا: "إننا ذاهبون في مهمة وطنية، ولسنا ذاهبين في سيران إلى البحر يا رفاق". ويكشف النص عن آليات توظيف الطلاب في الغايات السياسية فيصف الراوي عدد طلاب المدارس المتواجدين على طرفي طريق المطار لرؤية الرئيس الفرنسي، لكن الرواي لا يلبث أن يعلمنا بأن الجميع كان يروا رئيس بلدهم للمرة الأولى على هذه الدرجة من القرب: "كانت مشاهدة الأب القائد أشد إرواءاً للفضول من مشاهدة الرئيس الفرنسي الذي نشاهده على شاشات التلفاز والمجلات، ولكن مشاهدة الأب القائد كانت تلقائية وصامتة تماماً، فمن يجرؤ على الهتاف بحضوره". ومن بعدها، يبدل الرواي من زاوية السرد، لينتقل في الأسطر الأخيرة ويصور الحدث من وجهة نظر الرئيس الزائر (جاك شيراك): "لم نردد أياً من عبارات الترحيب والإستقبال للرئيس الضيف الذي لوح طويلاً جداً لشعب لم يعرفه، ظن أنه شعب سعيد، شعب يضحك ويضحك.. فضحك جاك شيراك لضحكنا، وضحك فريقه المرافق، ومازالوا يضحكون حتى عادوا إلى بلادهم، بينما عاد الحزن ليسكن وجوهنا حينما عدنا إلى بيوتنا".

لقد وجد الكاتب في هذه الحبكة حكاية مناسبة لتعكس التناقض بين الظاهر والمخفي، بين المصدر إلى الزائر والمسكوت عنه، بين صورة الشعب والطلبة الغامرة بالسعادة بينما هم في حال جبرية على القيام بذلك، جبرية الإبتسام، جبرية مشاركة الطلاب في أداء مهمة رسمية.

الفن في المنظور الإجتماعي والسياسي:

تفتتح قصة "صورة شمسية تحت الشمس"، بإعلان "ماجد" أمام عائلته عن رغبته في دراسة النحت في كلية الفنون الجميلة. تعكس القصة الصعوبات التي يعاني منها الشباب السوري الراغب في الدراسات الفنية، وذلك من تقييم المجتمع والثقافة حيالها: " وحين يتساءل الأب: ماذا تقصد بالنحت؟ ينبري الأخ ليشرح لوالده بأن النحات هو فنان، والفنان يعني مصير البقاء بوهيمياً عبثياً طيلة الحياة، فقير، بثياب رثة من الألوان والزيوت، وحينها بدأت الأم بالبكاء الصامت، بينما لم تصدق الأخت ما يقوله أخوها". تتعدد تفسيرات العائلة للأسباب التي دفعت "ماجد" إلى النحت، إهمال العائلة، الطيش والرغبة في عيش حياة بوهيمية، لكن السبب كانت رغبة ماجد باللحاق بابنة الجيران.

اقرأ ايضاً: "رهان الغيم" قصص عابرة للحدود.. برائحة الفرات

وشيئاً فشيئاً، راح ماجد يكتسب المعرفة في المجال الفني، فيرصد لنا القاص بدقة التحول في شخصية ماجد، فقد أصبح يفرق بين الصنم والتمثال، وبين المنحوتة والعمل الفني. وترافق ذلك مع تصاعد شحنات الكرامة والبوهيمية في عروقه، وشربه للعرق، وعلاقاته المتعددة مع النساء: "لذا وخلال سنة ونصف السنة تحول ماجد من تابع صغير لعائلته يظن أن التماثيل هي أصنام تعبد، ولا يشرب سوى الشاي مع البابونج الذي تعده أمه، تحول إلى فاجر ماجن منصرف إلى اللهو، يناشق مع أصدقئه الشيوعيين الأعمال الفنية، والصراعات الفكرية في مدارس الفن"، وراح ينحت أجساد نسائية عارية وأعضاء تناسلية يتمتع بتشكيلها من الطين.

لكن هذا ما زاد عليه نقمة الأهل، الذين قرروا أن الحل الوحيد هو إرساله إلى الخدمة العسكرية.

يتلقى النحات ماجد في الخدمة العسكرية الضرب والمعاملة القاسية التي تنقله من مشاعر الفنان والمثقف إلى الجندي: "شتائمه الثورية الليبرالية اليسارية المعادية لحكم العسكر وللهمجية العسكرتارية أشعرتهم بأنه يشتمهم فراحوا ينهالون عليه بالأحذية على بطنه رفساً ولكماً. ومع ذلك، يصر ماجد على آراءه: "خرج من الخيمة يركض وهو يصرخ بأنه سيدوس بأقدمه العارية كل الأحذية العسكرية في العالم، وبأنه سيحرق مخازن السلاح كي لا تبقى نهائياً أية فرصة لإشعال الحروب"، هكذا تتلون الكوميديا بالسخرية السوداء، بالمرارة، وإن أمكن القول، بأن القاص يأخذ ما يعرف ب "كوميديا المفارقات" إلى مدى سياسي واجتماعي، ويوظف تقنياتها ليجعلها نقداً ساخراً سياسياً وثقافياً.

لا يميز النقيب المسؤول عن سرية ماجد بين النحت أو الرسم، لكنه مولع بالإنصات إلى حكايات وأخبار الممثلين والفنانين، وهكذا يتقارب مع ماجد، لكن هذا التقارب يتحول لعنة حين يفتكر النقيب بأن قطعته العسكرية التي تحوي 1500 عسكرين و23 مبنى، لا يوجد فيها رسم واحد كبير للسيد القائد، ويكلف ماجد النحات بهذه المهمة، رغم التباعد بين قدرات النحت والرسم. يدخل القاص في مونولوجات الفنان ماجد الذي أصبح مجبراً على القيام بالمهمة بينما هو لا يتقن من الرسم أبداً: "انتصب على قدميه واقفاً متذكراً بأنه لا يقدر على رسم أي شيء في حياته، حتى النحت الذي تبجح به هو نحت تجريدي لصفائح وكتل خحشبية ومعهدنية يركبها فوق بعضها البعض ويطلق عليها أسماء تجريدية فنية مثل: كثافة، أو حنين، أو وجود، فيغرق المتلقي في بحر التأويل والتحليل الذي ربما ينجح وربما لا".

ميزة غنية للقصة قدرة المؤلف في الكتابة الفن والتفكير بذهنية الفنان. فإن اللوحة الوحيدة التي سنتابع تفاصيل تشكيلها هو بورتريه للأب القائد، لكن العملية تتم من قبل ماجد الذي لا يمتلك الموهبة الفنية، لذلك تدخل الكوميديا عند رسم العيون، أو الجبهة، أو الأنف والشفاه، بكل ما لها من قيمة ومهابة كونها ترتبط بالأب القائد، فيتابع النص بالتفاصيل تشكل البورتريه الضخم أمام شساعة الصحراء من قبل رسام غير موهوب، لنكتشف مهما كانت رداءة الرسم فإن أحداً لن ينتقده: "حينما طلب ماجد إنزال الشادر الذي هبط كستراة مسرح، فغر النقيب فاهه من هول ما رأى وصمت. وصمت معه الجميع من حضور وعسس وعناصر أمن، التفت النقيب يمنة ويسرة، ثم بصوت مبحوح أطلق عبارات تأوه من هول وجمال ما يرى ورأت عيناه. فلم يكن بمقدوره سوى تقديم آيات التبجيل والشكر للفنان الكبير الذي استطاع تجسيد وتصوير وجه الأب القائد". وحينها يضيف القاص عناصر من الغروتسك، ليقيم الاحتفالات والدبكات والمشاوي وذبح الخراف على شرف صورة القائد على الجدار.

العلاقات الإجتماعية في الهجرة:

تمتد قصص المجموعة تاريخياً من الثمانينيات والتسعينيات إلى التجربة السورية الراهنة، وفي قصة "ضحك مكلف جداً" تحضر موضوعة الهجرة القسرية والنزوح.

يضطر المحاسب "أسامة" مغادرة دمشق هرباً من القصف المتكرر والعشوائي، وبحثاً عن فرص عمل أفضل تمكنه من إعانة أسرته. فينتقل للعمل في بيروت، في شركة عراقية، وحدها التي توظف السويين. تستعرض القصة مشاعر الهجرة وتجاربها: "هو الآن وحيد في مدينة الصخب التي تضج بالشركات والمصانع والوكالات التجارية، التي كانت شهادات خبرته كافية لتجعله مديراً مالياً فيها لا محاسباً فقط، ولكن الإضطرابات السياسية جعلت رؤوس الأموال أكثر جبناً، وجعلت الجميع يتفادى السوريين ومشاكلهم ومشاكل أوراقهم الرسمية والإقامات وتصاريح العمل ومواقفهم السياسية".

يرسم القاص في هذه القصة ملامح شخصية  إنطوائية، تبحث عن العزلة، وتملك طباع مهنية صارمة. وبينما أسامة السوري يسعى العزلة والوحدة في بيروت، يتقرب منه بجلافة زميله اللاجئ العراقي "رحمون". هي قصة عن الغرباء الذي يقتحمون حياة الشخصيات الإنطوائية الإنعزالية، ليتحكموا في مصير أصحابها رغم معارضتهم. استعارة عن فكرة خسارة المهاجر لقدرة التحكم في مصيره، وحتمية انصياعه للشروط المفروضة في المجتمعات الجديدة.

السعادة الرأسمالية في بلد اشتراكي:

"ما هي السعادة؟" مهما تعددت الإجابات فإن السعادة هي موضوعة في الحياة اليومية، وهي موضوعة فلسفية في الآن عينه كما بينت لنا كتابات الفلاسفة عبر التاريخ، ومن هذه الثنائية بين الحياة اليومية، التفاصيل الذاتية، وبين السعادة بمفهومها الفلسفي أو العلم نفسي، وبين السعادة المعلبة والمزينة ببهرجات الرأسمالية وعصر الإستهلاك، تدور موضوعة القصة الأخيرة في المجموعة بعنوان "أرض السعادة".

اقرأ أيضاً:  "خفّة يد".. رواية "إسلام أبو شكير" التي يريدها أن تربك القارئ

تبدأ القصة بحوار بين صديقين عن المعاني المتعددة للسعادة من الفلسفية إلى المشاعر الذاتية، لكن القصة ما تلبث أن تصبح لقاءاً لمجموعة كبيرة من الأصدقاء القدامى والحاليين في رحلة جماعية إلى مدينة الملاهي (أرض السعادة)، والمؤلف هنا يرصد فعلاً حكاية مكان هو أول مدينة ملاهي في دمشق وسورية وعرفت بإسم (هابي لاند)، وعلى هذه الإزدواجية في الترجمة يشكل القاص لعبته المفاهيمية: "كانت سياسات التعريب هي سبب هذا الشعور القوي بالغرابة والريبة، حيث كان الاسم فجاً وموحياً بشيء لا يبدو أنه سيتحقق أبداً، حيث كانت محافظة المدينة قد ابتعت سياسات صارمة أقرتها وزارث القفافة تختص بتعريب أي كلمة أو مصطلح غربي، وعلى هذا المنوال باتت الترجمة الحرفية للأسماء الأجنبية نكتة المرحلة".

فمدينة ملاهي أرض السعادة بدايةً لا تنطبق عليها سياسة الترشيد والتقنين في استهلاك الكهرباء التي ابتعتها الدولة، فقد بدت من بعيد مشعة بهية تلتمع في عمق الظلام، متلونة بالألوان.

"إننا شعوب مرتاحة مع الحزن والكآبة، أما حينما يتعلق الموضوع بالسعادة فإنك تجد الحرج جاثماً في حجر كل واحد منا"

بينما تتواصل النقاشات حول السعادة يدرك القارئ المفارقة التي تعيشها الشخصيات بين أفكارها وواقعها: "السعادة مفهوم نسبي طالما كنت تعيش وسط كتل بشرية كبيرة، ومفهوم ثابت حينما تعزل نفسك عن الآخرين". فبينما تغرق المدينة وتفاصيل الحياة اليومية للمواطنين في الحزن والخسارات، فإن الناس كانوا يتدفقون إلى أرض السعادة من كل حدب وصوب، مثل لاجئين هربوا من قصف براميل ليست من الديناميت، بل من الحزن والهم والكمد، كانت الطوابير كثيفة ومتدفقة تنتظر أن تقطع تذاكر لتدلف إلى أرض السعادة، علها تغترف قليلاً من الضحك أو الأمل، أو ربما سبباً يجعلها في قادم الأيام تروي أنها حصلت على السعادة".

"إننا شعوب مرتاحة مع الحزن والكآبة، أما حينما يتعلق الموضوع بالسعادة فإنك تجد الحرج جاثماً في حجر كل واحد منا" هذه العبارة التي تقولها إحدى الشخصيات في القصة، تبدو وكأنها قناعة عميقة لدى القاص، وتوحي بأنها كانت الدافع وراء خياره في تأليف مجموعة قصصية تميل إلى الكوميديا والسخرية والمفارقة والغروتسك أحياناً، كما الفقرة التي يصف فيها بمبالغة ساخرة مشهد الجميع يقفون وكل منهم يحمل بطاقة ملونة كتب عليها: "أنتم موخولون للدخول إلى عالم الفرح"، وفي مواجهتهم قوس كبير يمر القادمون من تحته، كتب عليه: "أهلاً وسهلاً بكم في أرض السعادة".

تتكرر في القصة الألعاب اللغوية والفكرية على مفهوم أرض السعادة، فيقول جمال: "إن كنا نحن هنا في أرض السعادة، فلا بد أننا كنا نعيش في أرض التعاسة". لكن سؤال القصة الأعمق هو ما هو شكل أو خصائص السعادة التي تقدمها مدينة الملاهي. يعين القاص حضور الثقافة الرأسمالية في بلد عاش لعقود في ظل نظام يساري، فلم تكن أي من سياسات الرأسمالية متوفرة في تلك البلاد، فالخضار كانت تباع في المؤسسات العامة، البن الزبدة والسكر والرز تصرف للناس بموجب بطاقات تموينية شهرية، لكن في أرض السعادة نجد الباعة المتجولون يعرضون السجائر الأجنبية، والمشروبات الغازية الأجنبية كالكوكا كولا ومتجر للهمبرغر الأميركي، هذه هي السعادة شعر الجميع وراحوا يركضون خلف الجموع.

وكما في أكثر من موضع في القصص، يعتمد القاص على حدث يبدو في الظاهر بأنه عادي، ليتحول إلى تأثير عميق ويغير في مصير الشخصيات، وفي تفهم القارئ للنص. فإن ألعاب الدخول في ممر المومياءات المرعبة أو الركوب في القلابة، يوحي بأنها أفعال تستلهم السعادة، إلا أنه وفي كل مرة يتكشف الكراهية، الزيف، أو المخفي والمستور في العلاقة بين الشخصيات، فمع كل لعبة تنطلق الشتائم بين مجموعة الأصدقاء، أو بين ثنائي عاشق أو بين الأصدقاء، وهي تقنية سردية تذكر بأعمال (مسرح الحجرة) الذي برز مع بداية القرن مع كتابات "أوغست سترندبرج"، ومن ثم توسع مع تجارب "إنغمار برغمان"، وانتقل تأثيره إلى المسرح الأمريكي الواقعي الجديد مع نصوص مثل (من يخاف فرجينيا وولف، إدوارد ألبي)، (موت بائع متجول، آرثر ميلر)، وهو ينطوي على حساسية بالغة تجاه القضايا البسيكولوجية التي تتراكم بصمت عبر أحداث المسرحية دون أن تثير انتباه المتلقي، ثم ما يلبث حدث صغير أن يفجر المستور ويضع الشخصيات أمام الأزمات الحقيقة التي كانت تحاول تجاوزها.

كما أن هذا النوع من المسرح تميز بالإنتقاد والسخرية. و(مسرح الحجرة) تسمية تأتي من موسيقى الحجرة في الموسيقى الكلاسيكية، والفقرة التي يقارن فيها الناقد "باتريس بافي" بين مسرح الحجرة وموسيقى الحجرة، تعبر بدقة عن شعور القارئ مع تجربة قراءة هذه القصص الخمسة، فيكتب في (معجم المسرح): "يسري على مسرح الحجرة ما يسري على الموسيقى، يجب عليه استرجاع تعدد أصوات الحوار والمواضيع، وتنافر الأصوات، والنغمة الخاصة لكل آلة: إنه عمل دقيق للتوصيف الدراماتورجي والتأليفي المعقد للأصوات".

هذا ما ينطبق نقدياً على المجموعة القصصية: "ضحك عابر في بلاد الحزن الدائم".

 

 

كلمات مفتاحية