التنمّر عندما تمارسه الجماعات أو الدولة

2025.01.23 | 06:14 دمشق

آخر تحديث: 23.01.2025 | 06:14 دمشق

لافتة
+A
حجم الخط
-A

يمكن القول بسهولة إن معظم الأنظمة الاستبدادية كانت أنظمة شعبية، وبقراءة سير وتاريخ الطغاة سنجد أن أكثرهم قسوة ووحشية كانوا موضع تملق ومحبة قسم كبير من مجتمعاتهم، وأن الاعتراف بسمات الطغاة السيئة والتحدث عنها لا يحدث إلا بعد موت هؤلاء الطغاة أو إسقاطهم.

هذا لا ينفي وجود أفراد كارهين لهم، لكن هؤلاء الكارهون كانوا غالباً محارَبون من مجتمعاتهم، وغالباً ما يتم تجاهلهم بعد سقوط الطاغية، أو يتم إعادة الاعتبار لهم لوقت قصير، ثم يتم نسيانهم لتعود دورة التملق مرة أخرى، أي دورة البحث عن طاغ جديد يعيد نسج الحكاية من جديد لكن بأسماء وأبطال وطغاة جدد.

هل تستغربون أن يكون هناك من يمجّدون "هتلر" حتى اليوم، ويستلهمون تاريخه، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"ستالين"  ولـ"صدام حسين" و"حافظ الأسد"، ولطغاة كثر، لا بل ربما ذهب قسم كبير من محبّي هؤلاء إلى حد أسطرتهم، وتصنيفهم عباقرة، أو رجال دولة نادرون، أو ربما اعتبرهم البعض تجسيداً إلهياً على الأرض؟!.

يكتب المثقفون والمفكرون والسياسيون كثيراً حول  فصل الدولة عن السلطة، وهذا أمر ضروري فالسلطة نظريا وقانونيا ليست الدولة والعكس صحيح، لكن هذا الفصل يغدو مجرد تنظير عند الحديث عن أنظمة استبدادية كثيرة منها النظام السوري..

يكتب المثقفون والمفكرون والسياسيون كثيراً حول  فصل الدولة عن السلطة، وهذا أمر ضروري فالسلطة نظريا وقانونيا ليست الدولة والعكس صحيح، لكن هذا الفصل يغدو مجرد تنظير عند الحديث عن أنظمة استبدادية كثيرة منها النظام السوري، ولا أميز هنا بين النظام السابق والأسبق واللاحق و..و.. لأن تاريخ الأنظمة المتعاقبة في سوريا كان بمعظمه تغوّل للسلطة على الدولة وابتلاعها، وبالتالي يغدو الحديث عن فصلهما مجرد تجريدات نظرية مشتهاة، أو ربما تبريرات لغايات أخرى.

المشكلة الأهم في المجتمعات التي تهيمن فيها السلطة على الدولة، أو تبتلعها عبر آليات وأدوات الاستبداد، تتجلّى في تعميم ثقافة العنف أو القمع، لتطول المجتمع كلّه، وإذا أردنا التخفيف قليلاً يمكننا القول تعميم ثقافة التنمر، وقد لا أكون مبالغاً إن قلت إن المجتمع السوري بكامله هو مجتمع متنمّر، وأفراده يتعرضون للتنمّر، وهم في نفس الوقت يمارسونه عبر هرمية تحددها عناصر القوة.

يمكن تعريف التنمّر ببساطة على أنه سلوك عدواني من قبل طرف يمتلك القوّة، أو يتوهم امتلاكها، تجاه طرف أضعف، وقد يتمثل السلوك العدواني بإلحاق الضرر أو الأذى بآخرين، وإهانتهم، والسخرية منهم، وصولاً إلى الاعتداءات الجسدية بما في ذلك القتل، ورغم أن معظم الدراسات المتعلقة بالتنمّر تبحث بأسبابه ونتائجه على مستوى الأفراد، وانعكاسه عليهم، لكنها تكاد تغيّب  ما يتعلق بتنمّر فئات اجتماعية على فئات أخرى، أو بتنمّر الدولة أو تحويلها إلى أداة للتنمر!

المشكلة الأخطر في التنمّر السوري (إذا جازت التسمية) أنه يستعمل أدوات بالغة الخطورة، وتؤثر في المجتمع كله، فهو  سائد في  الاقتصاد والثقافة والدين والسياسة والأخلاق و.. وكل ركائز المجتمع، أي أنه يدخل عميقاً في بنية الدولة، وفي عمق النسق المعرفي والثقافي للأفراد، ويكفي أن تختلف في الرأي مع أحد ما حتى يسارع إلى استحضار ما يعتبره مصدر قوة له، كي يتنمر عليك.

أما مصادر القوة المتوهمة تلك فهي متعددة، فالذكر يمتلك القوة لكي يتنمر على الأنثى، والعربي يمتلك القوة لكي يتنمر على غير العربي، وكذلك الانتماء لطائفة ما، أو لمنطقة ما، والموقف من الثورة، والداخل والخارج..إلخ.

لعلّ التعبير الذي تم استعماله بكثرة في فترة حكم عائلة الأسد "نحنا الدولة ولاك" كان مثالاً واضحاً على التنمّر باستعمال "السلطة/ الدولة" للتنمر على الآخرين، أيضا كانت اللهجة الخاصة بطائفة ما وسيلة من وسائل التنمر، وهناك أدوات كثيرة أخرى، واليوم تفيض وسائل التواصل الاجتماعي بمفردات التنمر، ويتم اختيارها بما يناسب المتنمَّر عليه، فالتنمّر على الفرد يختلف عن التنمّر على طائفة أو مجموعة أو قومية.. وعبارة "نحنا الثورة ولاك" تكاد تكون الوجه الأصيل الآخر لعبارة "نحنا الدولة ولاك".

تكتبُ حقوقية وسياسيّة مخاطبةً فئة ما بعبارة "انضبوا"، ولا يخفى على أحد ماذا تستبطن هذه العبارة، ويكتب دكتور في الفلسفة وعلم الاجتماع أيضاً مخاطباً طائفة "يبدوا أنكم  لا تفهمون إلا بالعين الحمرا"، ويحاضر دكتور آخر حول "خيانة" مكون اجتماعي عبر التاريخ، ويستنتج بـ"ذكاء" يُحسد عليه أن الخيانة موجودة في "جينات" هذا المكوّن، وينظّر دكتور في الشريعة حول ضرورة فصل المواطنين السوريين إلى درجات فيصبح لدينا مواطنين من الدرجة الأولى والدرجة الثانية!

نحن بأمس الحاجة اليوم إلى وقف استباحة التنمر لعلاقاتنا، وهذه مسؤولية يجب أن يتحمّلها الساسة والمثقفون اليوم في ظل غياب القانون، وفي ظل غياب الأحزاب السياسة، والحياة السياسية، وفي ظل غياب مفهوم المواطنة..

ما ذكرته حول أوجه التنمر الذي تفيض فيه صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ليس مجرد "حوادث فردية"، إنه يكاد يكون الأسلوب الأساسي، والأفراد القلة الذين يحاولون التصدي له يجدون أنفسهم عرضة لتنمّر شديد، ولذلك يعودون إلى صمتهم في الغالب، ولهذا التنمر المستفحل أسبابه الكثيرة، لكن لعل أهم أسبابه إنما تكمن في كونه الوسيلة الأساسية في ثقافة التعامل مع المختلف، فالمختلف في الثقافة السائدة هو عدو، ومن ليس معنا فهو ضدنا.

نحن بأمس الحاجة اليوم إلى وقف استباحة التنمر لعلاقاتنا، وهذه مسؤولية يجب أن يتحمّلها الساسة والمثقفون اليوم في ظل غياب القانون، وفي ظل غياب الأحزاب السياسة، والحياة السياسية، وفي ظل غياب مفهوم المواطنة، والأهم في ظل ابتلاع السلطة للدولة، وتحول الدولة من وظيفتها ودورها المحايد حيال المواطنين إلى أداة لقهر المختلف أو لتعزيز سلطة الحاكم.

في السنوات الماضية، وعندما كانت بعض البلدان التي يعيش فيها لاجئون سوريون تمر بمشكلة ما، أو تحدث بعض المشكلات بينهم وبين مواطنون من تلك الدول كانت الأصوات ترتفع بمناشدة السوريين الهدوء، وعدم التصعيد حتى لو كانوا مظلومين، وكانت العبارة الأكثر استعمالاً: "يا غريب كون أديب" اليوم يكاد بعض "المثقفين" السوريين أن يقولوا للمختلف معهم في الفكر إذا كان من طائفة أو قومية أخرى نفس العبارة، متوهمين أنهم أصحاب الأرض، وأن الآخرين غرباء، وأن كل حقوقهم هي منّة وتكرم منهم.

كلمات مفتاحية