التنجيم والسلطة أفلاك السماء في خدمة النظام الأسدي

2022.01.01 | 04:18 دمشق

d0b3f46de2b81deb045a5410.jpg
+A
حجم الخط
-A

في نهاية كل عام ميلادي، اعتادت القنوات اللبنانية على استضافة منجمين أو متنبئين، ودرجت العادة أن يقدم هؤلاء المنجمون رؤيتهم للقادم من أحداث، لا من باب التوقع أو من باب استشراف ما هو كائن استنادا إلى معطيات وقراءات واقعية لما هو موجود، بل من باب إعلام المشاهد أو المتلقي ليكون على بينة مما سيحدث لا محالة في العام التالي. وفي منطقة تشكل الأحداث السياسية قضايا أساسية فيها، كان الهم السياسي يشغل حيزا كبيرا من نبوءات هؤلاء العرافين.

لم تعد خافية تلك العلاقة الوثيقة بين المنجمين اللبنانيين والنظام السوري، ولا سيما مع حديث هؤلاء المتكرر عن "انتصار " النظام السوري على الإرهاب، والتبشير بأن العالم كله سيأتي ليخطب ود هذا النظام الذي سيتنازل ويقبل بمد اليد "للدول التي اشتركت في المؤامرة الكونية"، من باب الترفع على الصغائر التي ارتكبها هؤلاء، والقبول باعتذارهم المتأخر. فقد اتضح أن هؤلاء المنجمين هم أبواق للنظام السوري، وجزء من آلته الإعلامية في بث اليأس في قلوب معارضيه من جهة، وإشاعة الأمل في نفوس مؤيديه، وخصوصا في السنتين الماضيتين اللتين شهدتا ارتفاع درجة اليأس والقنوط لدى جمهور النظام وحاضنته البشرية إلى مستويات لم تصلها حتى في أوج هزائم النظام العسكرية في عامي 2012-2013م.

لا يجوز أن يأخذنا التبسيط إلى افتراض أن العلاقة مع النظام السوري هي السبب المباشر أو الأهم في استمرار ظاهرة المنجمين اللبنانيين، وحضورها في الإعلام، ولكن لا يجدر بنا أيضا التغاضي عن هذه العلاقة في أثناء الإشارة إلى أسباب حضور التنجيم في القنوات اللبنانية، فالعلاقة بين النظام الأسدي وأذرعه الإعلامية في لبنان واضحة ولا داعي للإشارة إليها، وهي علاقة لا تقتصر على القنوات الناطقة باسم حزب الله والتيار العوني، وإنما تمتد إلى معظم المؤسسات الإعلامية اللبنانية الأخرى، حتى تلك التي تقف في وجه تيار "الممانعة والمقاومة".

ما يعنينا هنا هو تجاوز هذه العلاقة الواضحة للكشف عن الخيوط التي تربط السلطة بالتنجيم. فالسلطة بمفهومها الواسع في عالمنا المعاصر تتغلغل في كل العلاقات الاجتماعية والمؤسسات، ولذلك تبدو قراءة أي ظاهرة بمعزل عنها ضربا من القصور المعرفي الذي يتلمس أعراض المشكلة لا أصلها.

إذا كانت الخرافة أو الأسطورة نشأت لتجيب عن أسئلة أو ظواهر لم يكن العقل البشري يجد تفسيرا منطقيا لها، فكيف نفسر استمرار علم التنجيم داخل مؤسسات حكومية أو ممولة من حكومات يفترض بها محاربة مظاهر اللاعقلانية؟ كيف نفسر الحديث عن علم التنجيم القائم على تأثير النجوم والكواكب وحركتها في مصائر الناس، في الوقت الذي تقدم فيه علم الفلك إلى درجة باتت فيها مبادئه تدرس منذ المراحل الدراسية الأولى؟

لم يكن عمود النجوم مسموحا به في الدول الاشتراكية سابقا، ولكنه كان موجودا في الصحف السورية

الحقيقة أن التنجيم يلجأ إلى المراوغة، لأجل حجز مكان لنفسه في عالم اليوم، فيقدم نفسه على أنه علم كسائر العلوم، مثله في ذلك مثل الأرصاد الجوية، فالمتنبئ الجوي يبني توقعاته على أساس معلومات موثوقة، تتصل بحالة السحب والمنخفضات الجوية، واتجاهات الرياح...إلخ، والمنجم يتشح أيضا بثياب العلم والموثوقية، ويقدم نصائح وتوصيات على المتلقي قبولها على أنها حقائق علمية.

لم يكن عمود النجوم مسموحا به في الدول الاشتراكية سابقا، ولكنه كان موجودا في الصحف السورية. ومع أنه ليس للمنجمين جمعية أو تنظيم يؤطر عملهم في سوريا على غرار دول أخرى كلبنان، ولكنهم حاضرون في التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى، ولا سيما الخاصة منها، فالنظام في سوريا نظام يهمه توظيف كل شيء في سبيل بقائه. والمنجمون يفعلون ذلك. ولكن كيف يحدث هذا؟

يغرق المنجم المتلقين بشعور كاذب بالأمان، وبأن الحياة ستكون أفضل، ويوهمهم أن الزمن القادم أفضل من الحاضر والماضي. فما يريده المنجمون هو تعطيل آلية التفكير في المشكلات الحالية، لأنها ستحل من تلقاء نفسها، فهي قادمة من حركة النجوم والكواكب في أفلاكها، ودخولها في أبراج لكل برج خصائصه المعينة، فالأبراج نفسها منقسمة إلى أبراج هوائية ومائية ونارية وترابية، ثم تتناسل من هذه الصفات صفات أخرى...إلخ. فما يعانيه الإنسان كما يحاول التنجيم غرسه في وعيه أن المشكلات لا علاقة لها بالسلطة الحاكمة، أيا كانت هذه السلطة، ولا شأن لأجهزة الدولة بها، فهي مشكلات لم تنتج من التفاوت الطبقي ولا من الظلم والتعسف في استعمال السلطة، والقهر والاستغلال. فالسلطة، بمعناها الأعم، بريئة من مشكلات محكوميها أو من هم تحت ولايتها، فالقضية مرتبطة بعالم ميتافيزيقي، وكل ما على الفرد القيام به هو معرفة ما يوافق تاريخ ميلاده من الأبراج والأفلاك، ليقتنص فرصة مرور الكوكب في برجه، كي يشتري على سبيل المثال بطاقة "يانصيب"، فالترقي في السلم الاجتماعي، أو تحسين الوضع الاقتصادي، لا يرتبط بالعمل البشري، بل بطرق الفهلوة.

من أجل خلق عالم الوهم هذا، يصوغ المنجم عباراته على نحو مبهم، لأن القصد هو تعزيز المناعة الذاتية للفرد من جهة، وخلق شعور بتعاظم الأنا لديه من جهة ثانية، ولا سيما أن المنجم يخاطب الفرد على أنه شخص مهم، ويحشد في سبيل ذلك قائمة بأسماء الفنانين والرياضيين والإعلاميين الذين ولدوا في هذا البرج، وهو يفعل ذلك عن قصد، بغية إقامة المماثلة في وعي المتلقي بينه وبين هؤلاء النجوم الذين لا يختلف عنهم في شيء، ولا سيما أن النجومية الرياضة أو الفنية تعتمد في جزء كبير منها على الإعلام والترويج، على خلاف التميز العلمي أو الأدبي الذي يتجنب المنجم ذكره، لأن آلية الصعود فيه تقوم على العمل والمثابرة والجد. هكذا تبدو الفرصة معلقة في رحم الغيب دائما، وما على المتلقي إلا انتظار تلك الفرصة التي لن تأتي.

أما ما يبشر به المنجم فهو أحلام تبدو سخيفة للغاية إذا ما نظر إليها من زاوية واقعية صرف، فأكثر القضايا التي تدور على ألسنة المنجمين هي قضايا الحب والعمل، ومهمة المنجم الإشارة إلى أن "قصة حب" في طريقها إليك، أو أن "فرصة عمل جيدة" بانتظارك. أما التهديد أو إكراهات الواقع فلا يذكر منها إلا ما هو تافه أو سطحي، كمضايقة زميل في العمل، أو خلاف مع المدير حول قضية ما. وعلى المستوى الصحي يتجنب المنجم مثلا الحديث عن الأمراض، بل يركز على تعديل النظام الغذائي والإكثار من الفواكه أو الخضراوات...إلخ. ولهذا لم يتحدث أي منجم سوري أو لبناني وظفه النظام في السنوات الماضية عن احتمال مقتل الفرد بصاروخ أو رصاصة طائشة على الأقل، على الرغم من أن هذا الاحتمال كان وما يزال هو الاحتمال الأكبر في سوريا. ولكن كيف يقال هذا في ظل برنامج غرضه إشاعة الوهم وترسيخه؟!

ما الذي سيقوله منجمو النظام هذه السنة، ولا سيما بعد أن انكشف "انتصاره" عن جوع عميم، وخراب ظنت حاضنته الشعبية أنه من نصيب غيرها؟

وعلى الرغم من اعتماد المنجمين على اللغة، إذ يوظفونها بطريقة تشعر المتلقي بالانسحاق أمام تعبيرات مثقلة بإيحاءات دينية توحي بارتباط المنجم بعالم السماء، وقدرته المسلّم بها على استكناه الغيب، على نحو يذكرنا بلغة الكهان في العصر الجاهلي، فإنهم لا يكتفون بها فقط، إذ يعمدون إلى التأثير البصري في المتلقي من خلال الشكل أو الهوية البصرية، فعادة يختار المنجمون ألبسة معينة، وطريقة حلاقة شعر مميزة، ولنتذكر في هذا الصدد النجم اللبناني الذي بشر قبل سنوات بعام التلاقي أو التصافح، ولبس من أجل ذلك لباسا رسمت عليه يدان متشابكتان.

ما الذي سيقوله منجمو النظام هذه السنة، ولا سيما بعد أن انكشف "انتصاره" عن جوع عميم، وخراب ظنت حاضنته الشعبية أنه من نصيب غيرها؟  لا شك أن في جعبة أجهزة أمن النظام الكثير الذي ستلقن به المنجمين ليقولوه في إطار حفلة التكاذب المتبادلة. المؤلم أن جمهور النظام ذهب معه في خياره التدميري عن قناعة لا بسبب خديعة النجوم.