التنافس التركي الروسي في جنوب القوقاز وحظوظ تركيا في المنطقة

2020.10.11 | 00:00 دمشق

493406128.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهدت منطقة جنوب القوقاز، خلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، تنافسًا قويًا بين روسيا البلشفية وتركيا العثمانية، سعت خلاله روسيا لتثبيت أقدامها في المنطقة والحفاظ على مكتسبات الإمبراطورية الروسية بعد الاضطرابات الداخلية التي رافقت الثورة البلشفية (1917)، فيما سعت الدولة العثمانية للسيطرة على المناطق ذات الغالبية التركية – المسلمة وانتزاعها من الروس والأرمن المدعومين من موسكو، لضمان وصول النفوذ العثماني إلى بقية الشعوب التركية المسلمة في وسط آسيا (تركستان).

تمكنت الدولة العثمانية من السيطرة على معظم مناطق جنوب القوقاز، عبر عمليات عسكرية نفذها جيش القوقاز الإسلامي (أحد الجيوش العثمانية على الجبهة الشرقية) الذي كان يتكون من جنود عثمانيين وأذربيجانيين. وأدت تلك السيطرة وقتها لإعلان جمهورية أذربيجان الديمقراطية الشعبية، التي تعتبر ثاني جمهورية برلمانية في العالم الإسلامي بعد ألبانيا، واستمرت نحو عامين (1918-1920).  

وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وجدت تركيا نفسها مضطرة لخوض حرب الاستقلال (1919 - 1923) ضد الحلفاء المنتصرين في الحرب (بريطانيا وفرنسا) إضافة إلى اليونان المدعومة من قبل الحلفاء. وفي تلك الأثناء، دفعت روسيا السوفييتية التي كانت تقاتل ضد الحلفاء، الجيش الأحمر إلى العاصمة الأذربيجانية باكو (نيسان/ أبريل 1920)، بحجة مساعدة القوى القومية في تركيا (بقيادة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك)، وشكلت في باكو حكومة جديدة من الشيوعيين الموالين لها. تبع ذلك في تشرين الأول/ أكتوبر 1921، توقيع معاهدة قارص بين تركيا وأرمينيا السوفيتية وأذربيجان السوفيتية وجورجيا السوفيتية برعاية روسيا البلشفية. هذه المعاهدة أسست الحدود المعاصرة بين تركيا ودول جنوب القوقاز، كما منحت المعاهدة تركيا صفة "الضامن الوحيد" لأمن جمهورية نخجوان ذاتية الحكم في أذربيجان، فيما ساهمت أذربيجان السوفييتية بشكل فعال، من خلال موسكو، في دعم القوى القومية خلال حرب الاستقلال التركية، وحافظ قادة هذا البلد على علاقات خاصة مع تركيا.

عقب تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وإعلان جمهوريات جنوب القوقاز، أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في نفس العام، سارعت تركيا للاعتراف باستقلال هذه البلدان وإقامة علاقات دبلوماسية معها، لكن احتلال يريفان بدعم روسي إقليم قراباغ و7 محافظات أذربيجانية أخرى (1992)، دفع أنقرة إلى تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع يريفان وربط أي إعادة للعلاقات الدبلوماسية بانسحاب أرمينيا من الأراضي الأذربيجانية المحتلة.  

بعد استقلال جمهوريات جنوب القوقاز وانشغال روسيا بمشاكلها الداخلية لاسيما في مناطق شمال القوقاز (الشيشان وداغستان)، تمكنت تركيا، وخلال فترة قصيرة، من تطوير علاقات ثنائية وثيقة مع جورجيا وأذربيجان، سرعان ما تطورت لتتحول إلى علاقات استراتيجية مع البلدين، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية العلاقات مع أذربيجان التي قامت على مبدأ "شعب واحد في دولتين". فيما بقيت أرمينيا معزولة عن المشاريع الاستراتيجية التي شهدتها المنطقة بسبب إصرارها على عدم الانسحاب من الأراضي الأذربيجانية رغم قرارات مجلس الأمن الأربعة الداعية لانسحاب يريفان من تلك المناطق.  

تراجع دور روسيا في المنطقة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، مقابل توسع النفوذ التركي في جورجيا وأذربيجان، والنفوذ الغربي عمومًا في الجمهوريات الثلاثة (أذربيجان وأرمينيا وجورجيا). لكن هذا التراجع لم يسحب من موسكو صفة "الأخ الكبير" في المنطقة. 

نجحت "ثورة الزهور" (2003) بالإطاحة بنظام الرئيس الجورجي السابق "إدوارد شيفردنادزه" المدعوم من موسكو، وأوصلت "ميخائيل ساكاشفيلي" المدعوم غربيًا إلى السلطة، في الوقت الذي تحولت فيه جورجيا إلى ممر لجميع المشاريع الاستراتيجية بين أذربيجان وتركيا عبر ما يعرف باسم "ممر كنجة". هذا الوضع، إضافة إلى الخلافات الروسية الجورجية العميقة حول أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، دفع تبليسي لبناء علاقات وثيقة مع أذربيجان وتركيا على المستويين السياسي والاقتصادي.   

وفي أرمينيا ذات الثلاثة ملايين نسمة تقريبًا، افتتحت واشنطن في يريفان عام 2005، أكبر سفارة أميركية في العالم وقتئذ، كما ساهمت الاحتجاجات التي شهدتها أرمينيا عام 2018، باختيار "نيكول باشينيان" المقرب من الغرب، لتولي منصب الوزراء خلفًا لـ "سيرج سركسيان" المقرب من موسكو. وبالرغم من ذلك، بقي تأثير الغرب على أرمينيا محدودا نسبيًا، بسبب إحكام موسكو سيطرتها على الاقتصاد وجهاز الأمن في يريفان. إلى ذلك، اتهمت كل من موسكو وباكو "بلدًا ثالثًا" بتحريض يريفان على شن هجمات عسكرية ضد الأراضي الأذربيجانية عند الحدود الدولية (توفوز) ما بين 12 – 16 يوليو/ تموز الماضي، فيما رأت تركيا أن الهجوم المشار إليه يندرج ضمن ضغوط تمارس على أنقرة في شرق المتوسط. 

أذربيجان بدورها، تمكنت في الفترة من 2013 إلى 2020، من اتخاذ خطوات مهمة على صعيد التقليل التدريجي من الاعتماد على موسكو، وتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى جانب علاقاتها المميزة مع تركيا في جميع المجالات، كما يمكن اعتبار الخطوات التي قامت بها باكو في الفترة ما بين آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر الماضيين، والمتمثلة بإقالة مجموعة من أصحاب المناصب الرفيعة المتهمين بالقرب من موسكو، وعلى رأسهم "رامز مهدييف" المدير السابق لمكتب رئيس الجمهورية، الذي وصفه الإعلام الأذربيجاني، في سابقة هي الأولى من نوعها، بـ "رجل الظل الأول" و"رئيس الحرس القديم المرتبط بموسكو"، بأنها خطوة مهمة على صعيد إضاف النفوذ الروسي في البلاد. 

إضافة إلى ما سبق، تعتبر أذربيجان الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك حدودًا مشتركة مع كل من روسيا وإيران، وغالبًا ما يكون الحفاظ على التوازن بين طهران وموسكو وواشنطن أثناء محاولة حماية سيادة البلاد مهمة صعبة لقادة أذربيجان. وعلى عكس العلاقات الأميركية الأرمينية، تطورت العلاقات الأميركية الأذربيجانية في عدد من المجالات منذ أوائل التسعينيات، وخاصة التعاون في مجال الطاقة ومكافحة الإرهاب.

موسكو بدورها، لا تفكر بطبيعة الحال في ترك "حديقتها الخلفية" المتمثلة بجنوب القوقاز، ساحة للنفوذ التركي أو الغربي أو كلاهما معًا، في الوقت الذي ما زالت فيه روسيا تعتبر أرمينيا حليفًا رسميًا لها في المنطقة، من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي والقواعد العسكرية الروسية في أرمينيا. كما عمدت موسكو على توسيع قاعدتها العسكرية في "غيومري" الأرمينية، المجاورة للحدود مع تركيا، ما بين عامي 2015-2016، بعد حادثة إسقاط تركيا طائرة عسكرية روسية اخترقت أجواءها عند الحدود السورية (2015)، فيما تشارك القوات الروسية بتنفيذ دوريات مشتركة مع القوات الأرمينية على الحدود مع تركيا.

إضافة إلى ما سبق، تشارك روسيا في رئاسة مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بشأن قره باغ، إلى جانب فرنسا والولايات المتحدة. وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة تاريخيًا بين روسيا وأرمينيا، عمدت موسكو على لعب دور متوازن بين أرمينيا وأذربيجان، وبالتنسيق مع تركيا، منذ بداية تصاعد التوتر في المنطقة ما بين 12 – 16 يوليو/ تموز الماضي وحتى الآن، بسبب العلاقات الاقتصادية الوثيقة التي تطورت خلال العقد الماضي مع أذربيجان، إضافة إلى العلاقات الثنائية في مجالي الشراكة العسكرية والأمن عبر الحدود، فضلًا عن رغبة موسكو في إبقاء باكو خارج النفوذ الغربي والمحافظة على دورها كوسيط رئيسي بين باكو ويريفان.

من جهتها تركيا، التي وقعت مع أذربيجان اتفاقية شراكة استراتيجية ودعم متبادل في عام 2010، كما وعد البلدان بدعم بعضهما البعض في حالة وقوع هجوم عسكري أو عدوان ضد أي دولة، نجحت في التحول إلى "بلد ممر" لأضخم مشاريع نقل الطاقة في المنطقة. ويجري نقل النفط والغاز من تركمانستان وكازاخستان وأذربيجان إلى بلدان الاتحاد الأوروبي عبر "خط أنابيب باكو - تبيليسي – جيهان" و"خط أنابيب جنوب القوقاز" إضافة إلى كابلات الألياف الضوئية التي تربط أوروبا الغربية بمنطقة بحر قزوين وخط سكة حديد أوروبا - جنوب القوقاز، والتي تمر جميعها عبر تركيا وجورجيا.

الهزائم العسكرية التي منيت بها يريفان خلال الأيام الماضية، أظهرت لرئيس الوزراء الأرميني باشينيان، الذي ما فتئ يجري الاتصال تلو الاتصال مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاستجلاب الدعم، أن روسيا وحدها التي تقدم لبلاده أسلحة بالمجان، هي الطرف القادرة على ضمان أمن أرمينيا في المنطقة، في ظل التخلي الإيراني عن دعم أرمينيا – رسميًا على الأقل – وعدم قدرة فرنسا على تقديم الدعم إلا عبر بوابة موسكو، كما أظهرت لأذربيجان كما قال رئيسها إلهام علييف أهمية امتلاك "حليف وشقيق مثل تركيا التي تقف إلى جانب الشعب الأذربيجاني عند الشدائد".

وبناءً على ما سبق، يبدو أن روسيا التي ما زالت تمتلك القدرة على لعب دور الوسيط بين أذربيجان وأرمينيا، لا تجد غضاغضة في التنسيق والتعاون مع الجانب التركي في العديد من القضايا الإقليمية، بما في ذلك إيجاد حل للأزمة بين باكو ويريفان، فضلًا عن أنها تفضل رؤية دور لأنقرة في أذربيجان وجورجيا، بدلًا من رؤية تنامي النفوذ الغربي في "خاصرتها الرخوة".