لا شك أن الإبداع والتميز سمة يختص بها أناس دون غيرهم لما يمتلكون من إحساس ينبع من داخلهم يحدوهم نحو الإيمان بالفكرة التي تقودهم إلى النجاح، وأناس ميزهم الله بمواهب يعجز عنها الأخرون كانت سبباً في ابتكاراتهم أو اكتشافاتهم التي بقي صداها وأثرها على مدى عقود وقرون.
هذه المواهب يمكن وضعها في خانة الإبداع الذاتي أو الشخصي مهما كانت الظروف من حوله حالكة ألوانها أم مزهرة. فيما بعد أصبح المبدع رمزاً من رموز الأمة التي ينتمي إليها، ولكن هناك حالات تنافسية تزيد فوق الإبداع إبداعاً مضاعفاً يحمل في طياته ألقاً مميزاً تُكتب حروفه على سطور الخلود.
وهنا أريد أن أبدأ بحروف الشعر التي كُتبت وعُلقت (في العقول أو على ستائر الكعبة) حين كان سوق عكاظ ميدان شعر بل وميدان تنافس كبير جعل شعراء العرب يبدعون في أشعارهم. هذه التنافسية أورثت لنا معلقات شعرية خالدة مع مئات القصائد التي لا تقل جماليتها وعظمتها عن تلك المعلقات، مثل لامية العرب للشنفرى والتي مطلعها:
أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم
فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لأمْيَلُ
لكن ملحمة التنافسية التي خرجت من رحم الحرب بين عدي بن ربيعة (الزير سالم/ المهلهل) والحارث بن عباد، رغم أن الأخير لم يكن طرفاً في الحرب التي جرت بين بكر وتغلب لكن مقتل ابنه البكر جبير على يد الزير أجبره على دخولها والانتقام من المهلهل. السجال الشعري الذي برز حينذاك بين المهلهل والحارث، خلق نوعاً من التنافسية الإبداعية أورثت شعراً ينقش بالذهب. وفي هذا أقتبس بعضاً من أبيات شعر الحارث وما رد عليه المهلهل:
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي
لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي
لَيسَ قَولي يرادُ لَكِن فعالي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي
لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
ويرد المهلهل عليه بالأسلوب نفسه:
قَرِّبا مَربَطَ المُشَهَّرِ مِنّي
وَاسْأَلاَنِي وَلاَ تُطِيلاَ سُؤَالِي
قَرِّبا مَربَطَ المُشَهَّرِ مِنّي
إِنَّ قَولي مُطابِقٌ لِفِعالي
قَرِّبا مَربَطَ المُشَهَّرِ مِنّي
لِنِضالٍ إِذا أَرادوا نِضالي
ولو انتقلنا إلى العصر الأموي وما حالة التنافس الإبداعية بين الثلاثي الأشهر عربياً بل عالمياً جرير والأخطل والفرزدق لوجدنا متعة لا توصف بقراءة الأشعار التي كتبوها بل حتى القصص التي مروا بها وما خلفته من أثر يتكلم فيه الناس حتى يومنا هذا، وبكل تأكيد كل واحد منهم شاعر فحل من الدرجة الأولى ولكن بتساؤل بسيط لو أن حالة التنافس لم تكن موجودة بين هؤلاء الثلاثة في البلاط الأموي هل كانوا سينتجون ما أنتجوه من شعر خالد يترنم الناس بقصصهم حتى الآن؟ فصدق من قال لولا جرير ما كان الفرزدق ولولا الفرزدق لما كان الأخطل ولو لا الأخطل ما كان جرير وهنا لن أستشهد بأبيات شعرٍ للشعراء الثلاثة فهي كثيرة ولكن سأكتفي ببعض أبيات الرثاء لجرير بحق خصمه ومنافسه بالشعر الفرزدق:
لَعَمري لَقَد أَشجى تَميماً وَهَدَّها
عَلى نَكَباتِ الدَهرِ مَوتُ الفَرَزدَقِ
فَمَن لِذَوي الأَرحامِ بَعدَ اِبنِ غالِبٍ
لِجارٍ وَعانٍ في السَلاسِلِ موثَقِ
فَتىً عاشَ يَبني المَجدَ تِسعينَ حِجَّةً
وَكانَ إِلى الخَيراتِ وَالمَجدِ يَرتَقي
وفي عصر الخليفة العباسي المأمون والعصر الذهبي لحركة الترجمة العلمية من اللغات الأجنبية كالفارسية واليونانية وغيرها وما كان لها من فضل كبير في التطور العلمي وحركة النهضة العلمية في علم الفلك والطب والفلسفة؛ كل ذلك نتيجة روح المنافسة التي خلقها المأمون من خلال الحوافز والمكافآت التي كان يديرها بنفسه وأصبح بيت الحكمة في أزهي عصوره في زمنه.
***
ولو اتجهنا إلى الأندلس حاضرة الإسلام وأزهى دولها حيث كان يقصدها كل من يرى في نفسه مبدعاً متفوقاً وعنده شيء لا يوجد عند الأخرين، مما جعل تلك البلاد منارة للعلوم ومقصداً لأبناء ملوك الدول الأخرى من أجل تلقي العلم والتطور و الحضارة وغدا علماء الأندلس و كتبهم مراجع للدول الأوروبية كالعالم أبي القاسم الزهرواي الملقب بـ أبي الجراحة وابن رشد وابن زهر الإشبيلي وفي الشعر ابن زيدون وولادة بنت المستكفي والتنافس الشعري بينهما، والشاعر ابن خفاجة والشاعر الفيلسوف لسان الدين بن الخطيب، وغيرهم وصولاً إلى أبي البقاء الرندي ومرثية الأندلس، والموشحات الأندلسية والموسيقى، وهنا لا بد من الإشارة إلى أبي الحسن علي بن نافع (زرياب) مضيف الوتر الخامس للعود وواضع قواعد المقامات والإيقاعات، الذي هاجر إلى الأندلس لتخلّد اسمه عبر العصور.
في العصر الحديث، نجد أمثلة التنافس الفني الراقي في ألحان القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب. فما تركه الثلاثة من أثر فني يشهد عليه العالم كله من إبداع موسيقي كانت أم كلثوم كوكب الشرق هي روح الإلهام والإبداع والتنافس، فكان الإبداع ثلاثي الأركان في لحنٍ وكلمات وصوت، إبداعاً عابراً للقارات سجلته صفحات التاريخ.
في نفس السياق، لو أخذنا التنافسية عبد الحليم وفريد الأطرش في كسب قلوب الجماهير، لوجدنا أنها الأساس في الإبداع لكليهما في التمثيل والغناء الشعبي أو بالفصحى، والنجومية على المسرح؛ من قارئة الفنجان وموعود لعبد الحليم وعش أنت والربيع لفريد، وغيرها من عشرات الأعمال الخالدة لهذين العملاقين. وهناك أمثلة على عمالقة كثر لا يتسع المقال لذكرهم.
التاريخ العربي القديم والمعاصر مليء بالإبداعات والشخصيات النادرة التي أثرت الحضارة العربية بفنون وعلوم أسعدت البشرية كلها ولا شك أن جو التنافس كان عاملاً مهماً في الكشف وإثارة تلك الإبداعات من أعماق تلك الشخصيات ولا بد من خلق أجواء تنافسية حقيقية حتى يستمر الإبداع وتستمر صفحات التاريخ في تسجيلها.