التقيّة السياسية والمنطقة الآمنة

2019.08.12 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ممارسة "التقيّة" السياسية، ومقاربة قضايا سوريةٍ مصيريةٍ حسب ما تشتهي المصالح المَرَضيّة، فاقم عمر الوجع السوري. لو كانت أمور سوريا طبيعية، ويحكمها أي قانون؛ ولو كان السوريون هم جوهر قضيتهم وقطب رحاها- كما يدّعي كثيرون-، لكانت الترتيبات بخصوصها، والمتعلقة بمصيرها الآني وربما المستقبلي، تأخذهم بعين الاعتبار؛ ولكنها تتم بمعزل عن السوريين تماماً. ومن هنا فإن مزايدة أبواق النظام بالسيادة ليست إلا هراءً يُراد منه الاستمرار بالضحك على حاضنةٍ مغلوبٍ على أمرها تخضع للحديد والنار والكذب والتمثيل. مؤخراً، تختصر تلك الأبواق المأساة السورية بالعويل على إقامة "منطقة آمنة" في الشمال السوري، حيث يرون في ذلك خرقاً لـ "السيادة" واحتلالاً عثمانياً أمريكياً، وخيانة.

 

بداية، ليس سورياً مَن يقبل وجود قدم محتل أجنبي على أرض سوريا؛ وليس هناك احتلال لطيف، وآخر وحشي/ واحد لا يخدش السيادة، وآخر يخترقها. ما يهم السوري من أي ترتيب أو اتفاق يتم، هو ألا يضيف إلى حياته جحيماً فوق الجحيم. لا يريد السوري قبرص جديدة؛ ولا غزة أخرى؛ ولا يريد حتى "هونغ كونغ" جديدة مستحيلة. يريد أماناً لمئات آلاف السوريين الذين لم يهتز ضمير العالم لمصيرهم المأساوي- أكان تحت رحمة البراميل، أو في لجوء عاثر مهين.

 

ما يلفت في الترتيبات التي تتم بين تركيا وأمريكا حول مسألة المنطقة الآمنة أو العازلة أو "الكوريدور السلمي" هو عودة

ما مِن سوري في وارد الدفاع عن أمريكا، التي كان بمقدورها وقف نزيف سوريا منذ سنوات؛ أكان في عهد إدارة أوباما أم ترمب

اللاجئين السوريين إلى بلدهم؛ لا على طريقة جبران باسيل -أداة حسن نصر الله- في الترحيل القسري إلى حيث الموت على يديّ منظومة الاستبداد، بل عودة حرة كريمة آمنة.

 

ما مِن سوري في وارد الدفاع عن أمريكا، التي كان بمقدورها وقف نزيف سوريا منذ سنوات؛ أكان في عهد إدارة أوباما أم ترمب؛ حيث ينقلب ترمب على كل ما فعله سلفه، إلا في القضية السورية؛ مثبتاً أنه ليس أقل سوءاً من سلفه. وما السوري بوارد الدفاع عن تركيا التي فكّرت بمنطقة آمنة منذ خمس سنوات، ولم تفعل. ولكن من جانب آخر، وكشفاً لعويل منافقي "السيادة الوطنية" يمكن القول إنه لا أمريكا ولا تركيا أنشأت قواعد عسكرية لتسع وتسعين عاماً في سوريا، ولَم تضع يدها على موانئ سوريا، كما فعلت روسيا؛ ولَا استغلتا العوز والحاجة الشعبية السورية، وفتكت بنسيجها الاجتماعي تشييعاً وتغيراً ديموغرافياً؛ وما تحدثتا عن السيطرة على أربع عواصم عربية بينها دمشق، كما تفعل إيران. ولَم تتقاسما ملكية الولاء ضمن المنظومة العسكرية للجيش السوري؛ ولَم تضعا يدهما على موارد البلد الاقتصادية من فوسفات وغيره؛ والأهم- على الأقل تركيا- لم تعملا حارساً لمنظومة استبدادية تحمي جرائمها بحق شعبها.

 

من جانب آخر أمن روسيا القومي، وأمن إيران القومي ليسا مهددين؛ وما استقبلا لاجئاً سورياً واحدا؛ ولا حدود لهما مع سوريا؛ ولا وجود لمنظومة إرهابية تهدد كيانهما كما حال الـ “Pkk” بالنسبة لتركيا. باختصار، كل ما يدور الحديث عنه هو إيجاد منطقة آمنة يعود إليها ملايين السوريين الذين شردتهم براميل النظام الذي تحميه إيران وروسيا.

 

تلك الأبواق ترى في الأكراد وغيرهم خَوَنَة، إن هم قبلوا بتأمين تركيا وأمريكا حالة أمان لأهل تلك المنطقة وغيرهم من السوريين إن أرادوا العودة؛ ولكنها تراهم على ما يرام إن هم رضوا باستمرار إجرام منظومة الاستبداد الأسدية. أن تسيطر روسيا على مناطق في سوريا، لا بأس لدى النظام؛ ولكن أن تكون منطقة آمنة من التدمير الروسي وغيره، فهذا خيانة. أن تكون قسد خاضعة لمنظومة التحالف، وتكون أداة لاستهداف السكان المحليين وتهديد أمن تركيا، لا بأس؛ ولكن أن يقوم الأمريكيون والأتراك بتحييدها جانبا وتحويل تلك المنطقة السورية إلى حالة أمن وأمان على ساكنيها، وإعادة من اقتُلع من السوريين إليها، فذلك خيانة وطعن بالسيادة ووحدة وسلامة الأرض السورية. أي أن الأرض السورية لها سيادة، إذا كانت تحت سيطرة منظومة الاستبداد والميليشيات "الحزبلاتية" والاحتلالية الإيرانية والروسية؛ لأن هذا من السيادة والوحدة والوطنية. حقيقة، لا يُذَكِر هذا إلا بتسليم الجولان لإسرائيل عن طريق السلطة الأسدية بحكم أنها هي التي تملك حصريا

ما معنى ذلك الصمت عن سرقة الـ "بي كي كي" لثلثي مقدرات سوريا الاقتصادية برعاية أمريكية في الفترة الماضية؟!

السيادة والشرعية. ولا يشبه أيضاً إلا دعوة الاحتلالين الروسي والإيراني تحت يافطة الشرعية والسيادة. بمعنى آخر، إذا تهيأ للإنسان السوري الأمان والحفاظ على حياته، فهو خائن؛ ومن يدعو المحتل ليحميه ويحتل البلد هو الحريص على السيادة.

 

إذا كانت المنطقة المُزمَع تحويلها إلى منطقة أمان وسيادة للسوريين مكاناً مستباحاً حالياً من الفرنسيين، والبريطانيين، والـ "بي كي كي" التركي، ونسخته السورية، ومن "داعش"، ومن الأمريكيين وغيرهم- أي إذا كانت خارجة بالمطلق عن الوطنية السورية، وإن كانت منطقة يُمارَس فيها نهب الخيرات السورية- فما الضير بإعادتها لإدارة وطنية سورية آمنة؟! وما معنى هذه الحساسية "الوطنية" المنافقة؟! ما معنى ذلك الصمت عن سرقة الـ "بي كي كي" لثلثي مقدرات سوريا الاقتصادية برعاية أمريكية في الفترة الماضية؟! وما معنى الصمت والمطابقة على تشريد مئات آلاف المدنيين السوريين وانتهاك أعراضهم، والادعاء بأن المدنيين يُقتَلون "بالخطأ"؟! وما معنى الانتفاض اليوم والصراخ: (يا غيرة "الوطنية"؟!). المنطقة الآمنة الحقيقية لا تعني تبديل صورة "أوجلان" بصورة لمسؤول تركي أو أمريكي، ولا تعني تسخيف الأمور لتبديل اسم "كوباني" بـ "عين العرب"؛ إنها تعني- كما يرى ويصرح من يدفع بها؛ وكما يرى كثيرون- إحلال الأمان واستعادة إنسانية الإنسان السوري؛ والتي تسعى التقية السياسية أن تلغيها بالمطلق.