التعذيب بالتكرار حتى التسليم أو الموت

2021.07.30 | 05:22 دمشق

zidane-nuseirat.jpg
+A
حجم الخط
-A

مما يكابده المرء حين يمرض بالكريب أو كورونا وما ينتج عنها من ارتفاع درجات حرارة الجسم، والرأس تحديداً، والحمى، ومن أعراض تؤثر على عقله، أن صوراً أو كلمات سمعها في وقت ما، سوف تعاد في رأسه مرات ومرات!

وبموازاة الآلام الجسدية، في العظام والمفاصل، وفقرات العمود الفقري، سيجد المريض نفسه في معركة مع عقله ذاته، إذ ستنقسم ملكاته بين طرف يستطيب أن يحضر المشهد ذاته، أو يستمع للعبارة نفسها، وبين طرف آخر يحاول ألا يرى وألا يستمع، إذ سيكتشف بعد قليل من بداية الإعياء الدماغي، أن التكرار لم يعد مجرد صور أو كلمات بل تحول إلى قضبان معدنية، تطرق على جدران غرفة الرأس، فتحدث دوياً مشبعاً، لن يتمكن من التخلص من صدمته حتى يأتيه مرة أخرى، هكذا إلى ما لا نهاية.

الإحساس هذا، رغم أنه سينتهي حال انصراف الحمى عن الجسم، وعودة الرأس إلى حرارته الطبيعية، إلا أنه سيخلف تجربة سيئة، يتذكرها الإنسان كل مرة، فيشعر حيالها بالضيق ويتمنى ألا تحدث مرة ثانية، لكن وكما يقال: هيهات.. هيهات، سيتكرر المرض، طالما أن أجسادنا ضعيفة، وأنها تنخ أمام فيروس هنا، وفيروس هناك، ومع وعود الآلام التي تبشرنا بها المخابر الطبية ومنظمة الصحة العالمية، عن متحورات وأنواع جديدة من الفيروسات التي نعرفها سابقاً، سنعول على استراحات لأجسامنا، يمكن للقاحات أن تساعدنا على الصمود حتى عثور العلماء على علاجات نهائية لسلسلة الأمراض هذه.

تجارب المعتقلين السوريين الذين تعرضوا لمثل هذه الأساليب، تؤكد أن اتباع الجلادين هذا الأسلوب، ليس مسألة كيفية، بل آلية موضوعة كطريقة عمل

لكن، وعلى هامش تكرار الإصابة بالأمراض الموسمية وغيرها، ستبقى تلك الأصوات والصور التي تكررت في رؤوسنا تصدعها، وسنتذكر أنه في غير مدونة عن أساليب التعذيب التي اتبعها النازيون الألمان، والستالينيون الروس، وغيرهم، وكذلك ورثتهم في البلدان العربية، تمت الإشارة دائماً إلى قيام الجلادين بممارسة أفعال مكررة على المعتقلين في أثناء تقييدهم لفترات طويلة، مشبوحين أو جالسين أو ممددين على الأرض غارقين بدمائهم وأوجاعهم، فتسقط بتواتر فوق رأس السجين قطرة ماء، يستلطفها في البداية، ويستهين بها، لكنه بعد وقت ما وبحسب قدرته على الصمود، سينهار أمام إصرارها على طرق رأسه، حيث ستصبح مثل الكبل النحاسي السميك الذي ينهال على جسده! وإذا تم استبدال  أشياء أخرى بقطرة الماء، كإسماع المعتقل جملة ما، أو أغنية تمجد الديكتاتور، رغما عنه، لمئات المرات، فإنه سينهار تحت وقع التأثير البالغ الأذية لفعل التكرار القسري ذاته. وتجارب المعتقلين السوريين الذين تعرضوا لمثل هذه الأساليب، تؤكد أن اتباع الجلادين هذا الأسلوب، ليس مسألة كيفية، بل آلية موضوعة كطريقة عمل.

تتبع سلالات التعذيب، وكيفية انتقالها بين الأجهزة الاستخباراتية الفتاكة، سيقود الباحثين إلى صلة وصل بين ما تم استخدامه في السجون النازية والسوفييتية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت، وما قامت به وحدات الاستجواب الأميركية مع معتقلي غوانتانامو، أو عبر محطات التعذيب السرية حول العالم، والتي كان من بينها قيام فرع فلسطين بدمشق بتعذيب معتقلين لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وتجربة المعتقل (ماهر عرار) حاضرة وماثلة.

لكن جزءاً من التكنيك تغير، فصارت حمولة التعذيب الذي سيؤدي إلى انهيار قدرات المعتقل على الصمود أكثر ذكاءً وحدة، وحملت اسم "أساليب الاستجواب المعزز"، يدخل التكرار فيها، ولكن مع تغلغل أشرس في أعماق الخلايا الدماغية، ما يؤدي في المحصلة إلى إحداث عطب هائل في تكوين السجين، من الصعب الشفاء منه، فيصبح قابلاً ليس للاعتراف بأي شيء فقط، بل أيضاً لاختراع قصص وأدلة ذاتية التكوين، سيذكرها في أثناء اعترافه بالتهمة التي يمليها عليه المحققون.

وحدها، الدول التي تدعي الممانعة والمقاومة، تحكم شعوبها بالحديد والنار، وتكرر أنظمتها نفس أساليب الحكم الفاشية

الباحثة البارزة نعومي كلين، ثبتت في كتابها الشهير "عقيدة الصدمة" وأوضحت بالأدلة المدى الذي تبلغه الانهيارات في تكوين السجناء، حيث يؤدي تكرار التعذيب الذي يقوم على نزع إنسانية المعتقل، إلى تحوله إلى كتلة لحمية تعجنها كما تريد أيدي المجرمين، وربطت بين هذه التفاصيل وبين اعتماد الليبرالية المتوحشة على أسلوب الصدمة الذي ينهي الدفاعات الاقتصادية والثقافية لدى الدول المستهدفة، ما يؤدي في النهاية إلى انهيارها، وإعادة تشكلها ضمن سلسلة التبعية العالمية للمراكز الاقتصادية الكبرى.

طبعاً لا يحدث هذا الأمر بهدوء، أو عملية سياسية، بل إن كافة التجارب التي نعرفها، من أجل حصول هذا التحول، كانت تمر بانقلابات وأعمال عنف، تتفاوت شدتها بين هذا البلد أو ذاك. لكن الثابت في الأمر هو محاولة تطوير الأسلوب في عملية السيطرة والتطويع، وإذا أخذنا بالحسبان القدرات الهائلة للسيطرة العقلية والمادية عبر أدوات مهمة كشبكات التواصل الاجتماعي، وأيضاً الخوف من الأمراض والأوبئة، لن يكون الإنسان، وحتى الدول والمجتمعات، بحاجة للتعذيب، لا القديم، ولا المعزز، من أجل أن يتم اقتيادهم جميعاً إلى حظائر الاستثمار والنهب المنظم للمقدرات.

وحدها، الدول التي تدعي الممانعة والمقاومة، تحكم شعوبها بالحديد والنار، وتكرر أنظمتها نفس أساليب الحكم الفاشية، وكأنها لم تدخل الزمن ولم تتحرك معه، وتتبع طرقاً دموية في حل مشاكلها، وحتى أصغر أزماتها، ويخرج زعماؤها على شاشات إعلامها بالأحاديث المعادة، والشعارات المكررة، ويخرج صبيانهم ومهرجوهم على شعوبهم ليكرروا نفس المقولات، ويمارسوا أسلوب تعذيب الجمهور بالتكرار، والجلد اليومي، ثم مطالبة الفرد بالصمود، مقموعاً وجائعاً وعطشاً ومريضاً محموماً، تحت طائلة الاتهام بالخيانة، والتآمر، والتواطؤ عبر الصمت!

ووحدها، هذه البلاد، وهي تعيش بؤس حاضرها وانسداد أفق مستقبلها، لن تحتاج للأساليب الذكية لتصبح منقادة ومأسورة، فتكرار أفعال الطغيان يكفيها، لأن تنهار، وتتشظى، وتفشل، بعد أن أصيبت بحمى الطغاة شبه الأبدية.