منذ كنت فتاةً صغيرةً وأنا أقرأُ الكتب المترجمة كنت أشعر أنّ العالم أوسع ممّا يخبرني به محيطي اليومي وأن هناك لغاتٍ أُخرى تختبئ خلف الكلمات التي بين يدي وأن كل جملةٍ تصلني عبر العربية تحمل معها أثرًا من غريب بعيدٍ، أثرًا من لحن لم أسمعْه كاملًا، لكنه ظل يتردد في داخلي حتّى بعد أن أطوي الصفحة لهذا لم تكن الترجمة بالنسبة لي مجرد وسيلةٍ للوصول إلى نصوص لم أكتب بلغتي، بل كانت تجربةً وجوديةً كاملةً تجربة أقف فيها على الضفة وأتطلع إلى الضفة الأُخرى عبر جسر يلوحُ أحيانًا متينًا وأحيانًا أُخرى مهزوزًا تحتَ ثقل المعاني.
المعنى بين حضورٍ وغياب
النص الأصلي ليس مجرد كلماتٍ، هو جسدٌ حي محاطٌ بتاريخ وثقافةٍ وسياقٍ اجتماعيٍّ وروحي. وحين يعبُر عبر الترجمة يفقد شيئًا ويكتسب شيئًا آخر قد يخسر بعض ملامحه لكنه يلبس لغةً جديدةً تتنفس بروحٍ مختلفةٍ وهذا ما يجعل الترجمةَ مساحةً بين الحضور والغياب بين ما ينكشف وما يتوارى. ولهذا تبدو دائمًا أقرب إلى المغامرة منها إلى النقل فالترجمة ليست فعلًا محايدًا بل هي انحياز إلى إمكانيّة اللقاء.
بين الجسر والهشاشة
من السهلِ أن نستخدم صورة الجسرِ حين نتحدث عن الترجمة لكنها صورةٌ مقلقةٌ بقدر ما هي مغرية. الجسر يوحي بالثبات بالقدرة على العبور بأمان لكن الترجمة لا تمنحنا دائمًا هذا الأمان هناك نصوص علميّةٌ تتجاوز بسهولةٍ لأنها تخضع لمعادلاتٍ دقيقةٍ، لكن النصوص الأدبية والفلسفية تحمل طبقاتٍ يصعب على الكلمات الجديدة أن تحتضنها كاملةً. الشعر مثلًا لا يترجم مثلما هو، وإنما يعاد كتابته في لغةٍ أُخرى. وإذا كان النص الأصلي ماء جاريًا، فإن النص المترجم يصبح نهرًا آخر، يتشابه لكنه ليس ذاته.
الترجمة حوار بين الوفاء والحرية بين الحفاظ على الأصل والقدرة على التجديد والإبداع.
الهشاشة إذن جزءٌ من طبيعة الترجمة لا يمكن إلغاؤها هي تذكيرٌ دائم بأن هناك مسافة بين ما قيل وما وصل إلينا. ومع ذلك هذه الهشاشة لا تلغي القيمة بل تمنح الترجمة جمالًا خاصًّا، لأنها تكشف عن رغبة الإنسان في أن يتواصل رغمَ العوائق
الترجمة كتابةٌ ثانية
كثيرًا ما قرأت روايات مترجمةً تركت أثرًا في وجداني حتى قبل أن أتعرف على لغاتها الأصلية روايات دوستويفسكي بترجمة سامي الدروبي على سبيل المثال شكلت وجهًا جديدًا للأدب الروسي في المخيلة العربية ولولا تلك الترجمات لما صار دوستويفسكي جزءًا من مكتباتِنا وذاكرتنا. وهكذا يصبح المترجم كاتبًا ثانيًا يكتب النص بلغة جديدةٍ ويمنحه حياةً أُخرى.
ومن الأمثلة التي لا يمكن تجاوزها أيضًا ترجمات جبرا إبراهيم جبرا لأعمال شكسبير فقد كان قادرًا على التقاط الشعرية الإنكليزية وإعادة صياغتها في شعريةٍ عربيةٍ جعلت النص يبدو وكأنه ابن لغتنا لا غريب عنها. كذلك فعل صالح علماني حين أدخل القارئ العربي إلى عالم الأدب اللاتينيّ؛ فماركيز ويوسا وبورخيس صاروا جزءًا من ذائقتنا بفضل تلك الترجمات التي لم تكن حيادية بل كانت محملةً بلمسةٍ شخصيةٍ خاصة به.
المترجمات العربيّات وحضور الأنوثة في الترجمة
ولا يمكن أن نغفِل دور النساء في مسار الترجمة العربية فقد كانت سامية أسعد واحدة من الأصوات التي قدّمت ترجماتٍ مهمّةً في مجال الرواية الإنكليزيّة. كما أن منى كريم مثلًا قدّمت ترجمات معاصرةً للنصوص الأمريكيةِ الحديثة بصوتٍ مختلف يراعي حساسيةَ اللغة العربية ويفتح أمامها أُفقًا جديدًا. هذه الأصوات النسائيّة تضيف بعدًا آخر للترجمة، لأنها لا تنقل النص فحسب بل تفتح حوارًا مع قضايا المرأة والهوية واللغة في آن واحد.
البعد الثقافي والسياسي للترجمة
التاريخ يخبرنا أن الترجمة ليست مجرد فعل ثقافيّ بل هي فعلٌ حضاريٌّ وسياسيّ أيضًا. في العصر العباسي كان بيت الحكمة في بغداد بمثابة قلبٍ نابضٍ لحركة الترجمة حيث انتقلت علوم اليونان والفرس والهند إلى العربية لتصنع نهضةً علميةً وفكريةً غير مسبوقةٍ. لكن في زمن الاستعمار لعبت الترجمة دورًا مُغايرًا، إذ استغلها المستشرقون لتثبيت صورة معينة عن الشرق وفق مخيلتهم الخاصّة. وهنا يظهر الوجه الآخر للجسر حين يتحول إلى طريقٍ يفرض ثقافةً على أُخرى.
اليوم نعيش واقعا مختلفًا، فالسوق الثقافية صارت عابرةً للحدود، والنصوص تترجم بسرعة لكن كثيرًا منها يخضع لمنطق النشر التجاري فيفقد جوهرَه العميق ويعاد تقديمه في قوالبَ مسطّحةٍ تناسب أذواقًا عامّةً لا تريد الغوصَ في التعقيد. وهكذا تزداد هشاشة الجسر.
ولا بد من وجود الوفاء والحرية
يبقى السؤال: هل على المترجم أن يكون وفيًّا للنص حتى آخر كلمة حتى لو بدت غريبةً ومربكةً للقارئ أم أن عليه أن يتمرد قليلًا ليمنح النصّ حياةً جديدةً في اللغة المستقبلة؟ الترجمة هنا تصبح حوارًا بين الوفاء والحرية بين الحفاظ على الأصل والقدرة على التجديد والإبداع. وأعتقد أن أعظم الترجمات هي تلك التي تمسكُ بهذا التوازن الدقيقِ جسرٌ لا ينهار، لكنّه لا يتظاهر بصلابةٍ مطلقةٍ.
الترجمة في النهاية ليست مجرد أداة لنقل المعارف إنها فعل إنساني عميق يعبر عن رغبة البشر في التواصل عبر الحدودِ الزمنية والجغرافيّة واللغوية. هي تعبيرٌ عن إيمان الإنسان بإمكانية الفهم حتى في ظل الاختلاف الكبير. ومن دونها كانت ثقافاتنا ستظل منغلقةً على نفسها.
وفي النهاية، فإن الترجمة جسرٌ هشٌّ نعم، لكنها الجسر الوحيد الذي يتيح لنا أن نصل إلى الآخر، أن نلمس أفكاره وأحلامَه، وأن نعيد كتابة أنفسنا من خلاله. كلُّ نصٍّ مترجم هو وعدٌ بلقاء ناقص لكنه جميلٌ، لأن النقص فيه ليس عجزًا بل شرطًا للإبداع. فأنا كلما قرأت نصًّا مترجمًا أشعر أنني أعبر نهر الإنسانية الواسعَ بخطواتٍ حذرةٍ، ومع ذلك لا أتردد، لأن في كل عبورٍ مهما كانت هشاشتُه تتّسعُ روحي وتصبح أكثر قدرةً على الإصغاء إلى العالم.