التدمير الممنهج.. من "سرايا الدفاع" إلى "الحرس الثوري الإيراني"

2020.07.26 | 00:02 دمشق

download.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن لضابط مثل "رفعت الأسد" يقود قطعة عسكرية في سوريا، أن يقدم على استباحة القانون بالسهولة التي عرفها السوريون، لو كان في سوريا مؤسسات دولة بالمعنى الحقيقي، فهو عدا عن كونه قائداً لقطعة عسكرية واحدة من جيش يضم قطعاً عسكرية عديدة أخرى تُشكل العمود الفقري للجيش، وتخالفه فيما يريد، فإن هناك عقبات كثيرة أخرى سواء في الحزب الذي ينتمي إليه، أو في المجتمع السوري الذي لم يكن يرى فيه قائداً، لكن كل هذا لم يكن عائقاً يمنعه من استباحة المجتمع السوري بأي وجه أراد، فكيف ضمن رفعت الأسد عدم مساءلة القانون له، وكيف تيقّن من أن ما تبقى من قطع الجيش لن تقف في وجهه؟ وإن وقفت فهي غير قادرة على الانتصار عليه؟

باختصار شديد كان رفعت الأسد يستمد جرأته وصفاقته في تحدي الشعب والجيش والدولة، من المشروع الذي خطط له رجل سوريا الأقوى حينها شقيقه "حافظ الأسد"، وكانت سرايا الدفاع إحدى أهم أدوات هذا المشروع.

 يُمكن اختصار ما خطط له حافظ الأسد بجملة واحدة هي استدامة السلطة واحتكارها، بغض النظر عما سوف يتسبب به هذا الاحتكار من ويلات أو خراب، أي بنقل سوريا من صيغة الدولة بعلاقاتها وقوانينها والنظم التي تحكمها في شكلها العصري الحديث - وإن كان بتفاوت بين دولة وأخرى - إلى صيغة الإقطاعية أو المزرعة، التي تدار خارج الأطر القانونية والسياسية والاقتصادية، والاجتماعية الطبيعية للدولة.

 إذاً، لم يكن رفعت الأسد ليخشَ المحاسبة أو المساءلة، وكان مُطلق الصلاحية في أن يفعل ما يشاء، فكرّس نهجاً في إدارة الدولة، حكم من خلاله سوريا طيلة حكم عائلة الأسد، وما يزال، وأوصل سوريا إلى هذا الخراب الذي نحن فيه.

لم تكن سرايا الدفاع مجرد وحدة عسكرية ضمن تشكيلة الجيش السوري، بل ولأنها أسّست أساساً لهدف آخر، فقد تميزت عن باقي وحدات الجيش، فهي أولاً ترتكز في بنيتها على عصبية طائفية، وهي ثانياً تُدار بقوانينها الخاصة التي لا يحق للقانون السوري مراقبتها أو ضبطها، وهي ثالثاً تتمتع بميزات مالية واعتبارية لمن هم فيها، تتيح لهم الاستعلاء والتنمر على باقي قطعات الجيش دون أي اعتبار للنظم أو للتراتبية العسكرية، وهي رابعاً لا تستثني الشعب السوري، ولا مؤسسات الدولة الأخرى من استباحتها، وهكذا تعددت أوجه نشاطها سواء عبر رابطة خريجي الدراسات العليا، أو عبر منظمة اتحاد شبيبة الثورة التي أصبحت وجها من أوجه نشاط رفعت الأسد، أو عبر استباحتها للآثار السورية تنقيباً وتجارة... الخ.

بتكثيف شديد أسّس رفعت الأسد منظمة فاشية مافياوية لا يُمكن لأحد مقاضاتها أو محاسبتها، وسلّحها بأحدث الأسلحة، فتفوقت بإمكاناتها عن باقي وحدات الجيش، والأهم من هذا كله أنها كانت بحماية "حافظ الأسد" الذي كان طاغية القرار السوري.

الصدفة وحدها هي التي أنقذت سوريا في ثمانينات القرن الماضي من فاشية رفعت الأسد المتنامية، ولجمت مشروعه، الذي لو قيض له الاستمرار وفق ما خطط له، لكانت سوريا اليوم نموذجاً أشد بشاعة من النموذج الكوري الشمالي، الصدفة التي تسبب بها مرض حافظ الأسد حينها، فدفعت برفعت إلى الاستعجال مما وضعه في مواجهة مع مهندس النظام، وأقوى رجالاته أي مع شقيقه حافظ.

بغياب رفعت الأسد وخروجه من المشهد السوري، لم يتوقف المشروع الذي اعتمده حافظ الأسد لتكرّيس حكم العائلة، فواصل العمل فيه، لكن باستبدال بعض التفاصيل التي فرضت الأحداث استبدالها، وهكذا عرفت سوريا مرحلة إظهار باسل الأسد وتقديمه كقائد قادم لسوريا، وتعزيز حضوره داخلياً وخارجياً.

ومرة أخرى تتدخل الأقدار لتقف بوجه حافظ الأسد ومشروعه فتفجعه بالوريث المحتمل، وهكذا وفي كل مرة تتدخل الأقدار، يجد حافظ الأسد نفسه محاصراً بظرف جديد يفرض عليه شروطه القاهرة والتي لا يمكن إغفالها.

عندما لم يكن أمام حافظ الأسد أي خيار آخر سوى ابنه بشار، ذهب إليه محاصراً بحالته الصحية التي راحت تزداد سوءاً، وبعدم أهلية الشخصية المختارة، فكان الاختيار السيئ، والتحضير الأشد سوءاً.

عندما انفجرت الثورة السورية، لم يكن الرجل الذي أورّثه حافظ الأسد قيادة سوريا قادراً على إدارتها، لا سيما وأنها بالغة التعقيد بتركيبتها الديموغرافية، وبالغة الحساسية لموقعها الجغرافي السياسي، ومثقلة بعقود من القهر والإفقار والنهب والفساد وسوء التخطيط، فكان لا بدّ له - وهو غير المؤهل - من جهة ما تدير البلد بالنيابة عنه، شريطة أن تضمن له البقاء في موقعه، ولم يكن هناك من هو أقرب وأكثر تأثيراً من إيران وحزب الله، هكذا ارتمى بشار الأسد في حضن إيران، تاركاً لها أن تتدبر أمر البلد الذي يرزح تحت وطأة ألف مشكلة ومشكلة.

تولى الحرس الثوري الإيراني الذي يتبع مباشرة للولي الفقيه مهمة إدارة علاقة إيران بسوريا منذ البداية، ومن ثم إدارة سوريا كلها، وأصبحت دمشق مقراً ثانياً لقائد الحرس الثوري قاسم سليماني، ويا لسخرية القدر هذه المرة، عندما تعود الفاشية الصفيقة التي خفتت بإبعاد رفعت الأسد، لتسيَّد سوريا عبر الحرس الثوري الإيراني، ووجهه الأكثر بشاعةً: حزب الله وقاسم سليماني.

لا يختلف الحرس الثوري الإيراني في جوهر بنيته عن سرايا الدفاع، أو عن حزب الله، فكلّها فاشيات ترتكز على عصبية طائفية، تغلفها شعارات لها حضورها الكبير في وجدان مؤيديها، لكن الاختلاف الأهم تركز في استراتيجية منظري الجهتين حول الطريقة الأفضل للوصول إلى الهدف، وفي المرجعية العليا لكل منهم.

لم يكن حافظ الأسد يضع تدمير الدولة هدفاً له، لكنه وفي طريقه لاحتكاره وعائلته لسلطة دائمة وقوية، وجد أن تدمير الدولة أو إفراغها من جوهرها الحقيقي لابدّ منه لخلق هذه السلطة، فكان يهدم ما يعيق وصوله إلى هدفه، بينما كان الولي الفقيه يرى أن وصوله إلى ما يريد يتطلب تدمير سوريا بأوجه عديدة، وهكذا أكمل قاسم سليماني (التابع للولي الفقيه) مشروع رفعت الأسد (التابع لحافظ الأسد)، لكن بوحشية أشد.

باختصار شديد يمكن القول: إن كل هذا الدمار الذي تشهده سوريا اليوم، جاء نتيجة حتمية لتحكم فاشية تعتمد الطائفية كعصبية، وتقرأ السلطة بدلالة مشروعها الخاص، وليس بدلالة الدولة والشعب ومصالحهما.