التحليق فوق الواقع والطموح الواقعي

2022.04.24 | 06:47 دمشق

598d6623d43750ef218b4567.jpg
+A
حجم الخط
-A

من ميزات الشعوب والنخب في مراحل طفولتها التاريخية أو في حالاتها الانفعالية أنها قد تهرب من مواجهة الواقع عن طريق تفعيل الخيال والشطح نحو الأسطورة والشعر، حيث يمكن إيجاد حلول متوهَّمة لتعقيدات الحياة ومشاكلها عن طريق بناء عالم مُتخيَّل له ديناميات تطوره الذاتية في محاذاة الواقع، وبخاصة حين تنسد الآفاق. من ذلك اللجوء إلى إمكانيات اللغة في ابتداع عالم فصامي، كما في طرح شعارات سياسية حالمة، من خلال خُطب حماسية أقرب إلى إلقاء القصائد الشعرية، بخلاف ما تحتاجه السياسات الواقعية من برامج ملموسة.

في مثل هذه الحالات، غالبًا ما تخفي الشعارات البراقة والوعود الخلّبية الكثير من المآسي وسيول الدماء في الواقع المُعاش، وهذا ما سيحصل بصورة شبه مؤكدة، عاجلًا أم آجلًا، بخلاف الطموحات السياسية ذات الأساس الواقعي، والتي يمكن أن تتحقق من خلال خارطة طريق تمهد كل خطوة فيها للخطوة التالية، بمنطق تعاقب الإنجازات والبناء عليها. تنجم خطورة الأحلام السياسية غير القابلة للتحقق من أنها، حين تدغدغ العواطف وتثير الحماس، فهي تحول دون إدراك المخاطر المؤجلة للسياسات غير الواقعية.

ها هو الرئيس بوتين يحاول استعادة الكرّة من خلال تحويل الطموح السوفياتي الآفل من جديد إلى روسيا، من أجل بناء أوهام عظمة متخيلة بدأت تغرق تدريجيًا في أوحال أوكرانيا

نجد ذلك عند القوى والأحزاب التي تستغل العواطف الدينية للبسطاء وتعدهم بما لا يمكنها تحقيقه لغياب البرامج السياسية الواضحة. كما تجلى ذلك بأوضح ما يمكن في شعارات الحقبة السوفياتية، كما في شعار: "إلى الأمام.. إلى الشيوعية"! فعلى الرغم من مثل هذه الشعارات والوعود، لم تتأخر النهاية السوريالية للنظام السوفياتي، الذي ترك وراءه آلاف الرؤوس النووية المدمِّرة للحياة وركامًا من السلع غير الصالحة للاستعمال. والمفارقة، بعد السقوط المدوي لهذا النظام، ها هو الرئيس بوتين يحاول استعادة الكرّة من خلال تحويل الطموح السوفياتي الآفل من جديد إلى روسيا، من أجل بناء أوهام عظمة متخيلة بدأت تغرق تدريجيًا في أوحال أوكرانيا، وهو بذلك يعيد إثبات مقولة كارل ماركس حول أن التاريخ يعيد نفسه مرة كمأساة ومرة أخرى كمهزلة.

كان سقوط الاتحاد السوفياتي نتيجةً لمحاولة القفز فوق واقع الرأسمالية بالقوة (مقولة لينين حول إمكانية بناء الاشتراكية في بلد رأسمالي متخلف؛ روسيا)، الرأسمالية التي استطاعت الخروج من أزماتها الدورية والانتقال إلى مراحل أكثر تقدمًا، في الوقت الذي عمل فيه النضال الدؤوب ضد مظالمها على تحسين ظروف العاملين وتوفير المزيد من السلع ووسائل الراحة وتعميمها على شرائح اجتماعية متزايدة، إلى جانب تطوير أنظمة الضمان الاجتماعي. وما زالت الرأسمالية، كمرحلة مهمة من تطور البشرية، تتدرّج في أشكال ترقيها، وصولًا إلى الوضع الحالي وليس انتهاءً به، وبما يُقرّب العالم من بعضه البعض، من دون إغفال المخاطر التي ما تزال محدقة بالوجود البشري والطبيعة الأم، فالحديث هو دائمًا عن استمرار تراكم المكاسب والإنجازات وليس عن مآل نهائي هو أشبه بالحلم البعيد.

وبينما كانت الشعارات الاشتراكية – الشيوعية تحوم فوق الواقع، ولا يعلم إلا الله كيفية وزمن تحققها، كانت الشعارات الرأسمالية مجرد رموز ولُصاقات ترافق السلعة - المنتج في تجوالها عبر الأسواق والأذواق، في ظروف تنافسية تتيح للأفضل أن يستمر ويتطور. قيمة الشعار هنا تتحدد بقيمة السلعة الاستعمالية وجودتها، سواء كان طبعةً على قطعة قماش أو شعارًا لشركة صناعية كبرى كمرسيدس أو حروفًا متواضعة ترمز لاقتصاد المعرفة كشعار شركة غوغل العملاقة، فالشعار هنا لا يفارق المنتج، إلا ليقفز أحيانًا إلى لوحة إعلانية على الطرقات.

كجزء من دول العالم الثالث، اتبعت سوريا النظام السوفياتي في عدم البناء على ما سبق إلى هذه الدرجة أو تلك، وكان تاريخها قبل ذلك مجموعة من القفزات المتتالية فوق الواقع، من محاولة تجسيدها كدولة بحدود مبهمة بعد الحرب العالمية الأولى، من خلال حكومة الملك فيصل العربية، إلى تفصيلها على مقاس اتفاقية سايكس – بيكو. فمنذ البداية، لم تكن ثمة قناعة كافية بالنموذج السوري للعمل عليه، وتم القفز فوق أسواره نحو الأمة العربية أو الأمة الإسلامية أو الأممية الشيوعية، ظنًا بأنه يمكن إيجاد الحلول للنموذج الهش من خارجه، مع أن الحلول من الخارج يتحكم فيها الخارج. لم نخرج من هذه الحالة حتى الآن، وقد تفاقمت إلى أبعد حدودها بعد العام 2011، وتكشفت الأوهام التي كنا نعيش في كنفها، وعلى رأسها أننا لم نعرف نظامًا حقيقيًا للمواطنة.

تنافس سياسيو سوريا في القفز فوق حدود اتفاقية سايكس، محولين عدم قناعتهم بسوريا الصغيرة إلى مغامرة غير محسوبة في الفراغ العروبي والأممي والإسلامي

ومهما قيل عن الانتداب الفرنسي، فقد انطلق من قاعدة التنوع السوري ليبني عليه هيكل الدولة، لكن تخبط فرنسا وعنجهيتها واحتلالها من قبل الألمان ودور الإنكليز الحاسم لم يسمح لهيكل الدولة هذا أن يكتمل، كما لم يُنجز الاستقلال تمامًا بسبب الانقلابات العسكرية والتدخلات الخارجية، إلى أن احتل الاستبداد هيكل الدولة منذ عام 1958، وتم طمس التنوع السوري ليخرج في عام 2011 مهشمًا ومدمّى.

هكذا، وعبر تاريخ سوريا المعاصر كله، تغلبت طموحاتنا الوحدوية مع الخارج أو التبعية له على العمل من أجل وحدة الداخل على أساس المواطنة، وقد تنافس سياسيو سوريا في القفز فوق حدود اتفاقية سايكس، محولين عدم قناعتهم بسوريا الصغيرة إلى مغامرة غير محسوبة في الفراغ العروبي والأممي والإسلامي.

إن البناء على تباينات الواقع، من خلال الحوكمة اللامركزية بمفهوم السياسة الحديث، ما يزال مُتاحًا من أجل أن يتحول التباين في نمط العيش والاختلافات الروحية والعرقية إلى مصدر غنىً لا ينضب، وأن تحصل التنمية على أساس الحاجات الملموسة، وأن لا يتم قسر الواقع وإخفاء تعقيداته بشعارات وطموحات لا تخضع لاعتبارات المصلحة الوطنية السورية الصرفة أولًا وأخيرًا، حاضرًا ومستقبلًا.