التجارة الناعمة في العراق!

2021.12.25 | 05:11 دمشق

20190518-61080056-1219039068264864-4790766591094554624-n-jpg03b4b1-image.jpg
+A
حجم الخط
-A

يبدو أن عالمنا المعاصر، وبالرغم من التطور المذهل في التكنولوجيا والعلوم المختلفة، إلا أن واقعه مليء بالتغول على الآخرين واستعبادهم!

لقد امتازت العصور الجاهلية في بعض مراحلها بالعبودية أو الرق، ومع ذلك، ربما، كانت العبودية في تلك العصور المندثرة أرحم من عبودية العصر الحالي لأن العبد في السابق يكون بمعية سيده ورعايته من حيث الطعام والشراب وما إلى ذلك من صور الرعاية المختلفة، أما عبودية اليوم فهي عبودية ساحقة للإنسان وللفقراء والمعوزين، ولشرف المستهدفين (العبيد) وتستهدف كذلك سرقة أعضاء الضحايا الجسدية في أوقات الحروب والمجاعات وغياب دور الدولة، وهذه أبشع من عبودية الجاهلية، وفي كل الأحوال هذه التصرفات الشاذة لا تتفق مع الحالة الإنسانية السليمة.

والاتّجار بالبشر أو التجارة الناعمة هي استغلال الإنسان في تجارات هابطة أو قاتلة، ومنها الجنس سواء للإناث أو الذكور، أو تجارة الأعضاء البشرية!

وتجارة البشر من التجارات الرائجة، وتأتي بالمرتبة الثالثة بعد تجارة المخدّرات والأسلحة في عالمنا (المتحضر) الذي يتاجر بكل ما يفتك بالإنسان وفكره وكيانه!

وبخصوص ضحايا هذه التجارة الهابطة فهم من الفقراء والعاطلين عن العمل وضحايا الإرهاب والحروب والترهيب، وفي مقدّمتهم النساء والأطفال، حيث يُستهدفون لأغراض شهوانية جنسية وغيرها من الأهداف الخبيثة ومنها بيع الأعضاء البشرية والتسول وما إلى ذلك من المهلكات والمدمرات لقيمة الإنسان!

الاتّجار بالبشر نوع جديد من الإجرام اقتحم حياة العراقيين في عصر الديمقراطية، والتي لم تكن معهودة في المراحل السابقة للعام 2003

وتكمن خطورة جرائم الاتّجار بالبشر بأنها من التجارات الخفية وغير البارزة لأنها تمرر عبر خطوات عادية تتمثل برحلة سفر طبيعية من بلد لآخر عبر سماسرة، وبالتالي يكون الكشف عن الصفقة أو الجريمة ليس سهلا لأنها تقع ضمن إطار الاتفاقات البينية الخاصّة والسرّية بين التاجر والضحية، وحتى بيع الأعضاء البشرية يتمّ بسرّية وفي أماكن خاصّة، ومن هنا تكمن صعوبة ملاحقة هذا النوع من الجرائم في كل دول العالم!

والاتّجار بالبشر نوع جديد من الإجرام اقتحم حياة العراقيين في عصر الديمقراطية، والتي لم تكن معهودة في المراحل السابقة للعام 2003، ولم تنتشر حتى في مرحلة الحصار الدولي القاسي الذي أعقب الغزو العراقي للكويت في العام 1990.

ومع تنامي هذه الظاهرة حاول المشرّع العراقي بيان موقف القانون منها، وقد تناول قانون مكافحة الاتّجار بالبشر بموجب التشريع المرقم (28) للعام 2012م ضمن المادّة (1/1) وعرّفها بأنها: (تجنيد أشخاص أو نقلهم أو استقبالهم، بوساطة التهديد بالقوّة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف، أو الاحتيال، أو استغلال السلطة أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية، أو مزايا لنيل موافقة شخص له سلطة أو ولاية على شخص آخر بهدف بيعهم، أو استغلالهم في أعمال الدعارة أو الاستغلال الجنسي، أو السخرة أو العمل القسري، أو الاسترقاق، أو التسول، أو المتاجرة بأعضائهم البشرية أو لأغراض التجارب الطبّيّة)!

وبهذا يكون المشرّع العراقي قد تناول قضية الاتّجار بالبشر بتفاصيلها الدقيقة، ورغم ذلك لاحظنا استمرار هذه الكارثة المجتمعية بسبب ارتفاع معدلات البطالة والفقر والمخدّرات!

ولا توجد حاليا إحصائيات عامّة عن جرائم الاتّجار بالبشر في العراق، وهنالك إحصائيات متفرقة بحسب المحافظات!

وقد راجعت الموقع الرسمي للمفوضية العليا لحقوق الإنسان العراقية ولم أجد أي إحصائيات رسمية بخصوص جرائم الاتّجار بالبشر في العراق.

واتصلت بالمفوّضيّة عبر موقعهم الرسميّ على الفيس بوك وكان ردّهم بأنّ الإحصائيّة لم تصدر لحدّ الآن!

جرائم الاتّجار بالبشر من النتائج المتوقعة في مراحل الحروب ومخلّفاتها، وبالذات مع غياب الوازع الدينيّ والتكافل الاجتماعيّ وإهمال الدولة للفقراء والمعدومين، وضعف الضمير الإنسانيّ، والتفكّك الأسريّ، وأيضا لعدم التوزيع العادل لفرص العمل والثروة الوطنية، وكذلك عبر تضييع الأسر بتغييب وليّ أمرها في المعتقلات والمطاردة وتركها بلا معيل أو معونة تكفل كرامتها وحياتها!

ومن الأسباب المرتبطة بما تقدّم المبالغ الضخمة التي تقدمها عصابات الاتّجار بالبشر، أو شراء الأعضاء البشريّة كون الطرف المستفيد، في الغالب، هو من الأغنياء، وربّما من المترفين، وكذلك التراخي الرسميّ في متابعة هذه الجرائم، وربما، عدّها من ضمن التبرّعات المقبولة!

وأظنّ أنّ من أكبر أسباب تنامي هذه الجرائم هو الإدمان على المخدّرات والكحول، وقد ذكر وزير الداخليّة العراقيّ يوم 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وأكّدها أكثر من مرّة لاحقا، أنّ نصف شباب العراق مدمنون على المخدّرات!

وفي كلّ الأحوال فإنّ الضحيّة يحصل على النسبة الأقلّ من المبالغ المتّفق عليها، والتي تذهب لجيوب العصابات التي تترك الضحية بعد انتهاء العملية الجراحيّة في مواجهة واقع صحّيّ سيئ وربّما قاتل!

وتحاول عصابات الاتّجار بالبشر استغلال المناطق المدمّرة التي تعاني من ارتفاع كبير لمعدّلات الفقر ومنها مدينة الموصل المحطمة التي سجلت في العام 2020 تسجيل 28 دعوى متعلقة بالاتّجار بالبشر بينها خمس حالات تتعلّق بالنساء!

أمّا بخصوص مراحل عمليّات بيع الأعضاء البشرية فإنّها تتمّ على النحو الآتي:

- الاتّفاق المباشر أو غير المباشر بين التاجر أو السمسار والضحية.

- إجراء الفحوصات الطبّيّة اللازمة للمطابقة بين الضحيّة والطرف المراد التبرّع له.

- الموافقة الأمنيّة: في حال نجاح الفحوصات الطبّيّة يتمّ استحصال الموافقة الأمنيّة وهي في الغالب إجراءات روتينيّة كون الضحيّة سيظهر بمظهر المتبرّع، وبالتالي تختفي معالم الجريمة!

وقد ذكر بعض التجار والضحايا أنّ الإجراءات الرسميّة الأمنيّة تتمّ أحيانا بأوراق مزوّرة وكل ذلك يدخل ضمن الفساد الإداريّ والماليّ المستشري في البلاد!

ومع جميع هذه الإجراءات القانونيّة والشكلية تبقى هذه الجرائم منتشرة في المساحات المظلمة، ولا يمكن الكشف عنها بسهولة لأنها تتمّ بموافقة الطرف الأضعف أو الضحية، وربّما تتم تحت عناوين إنسانيّة ومنها التبرّع، وهنا لا يوجد نصوص قانونية يمكنها أن تحجم هذا النوع من التجارة!

وفي الميدان القضائي يحاول القضاء تحجيم هذه الظاهرة عبر الأحكام القضائيّة القاسية، ويوم الإثنين الماضي (13/12/2021) أصدرت محكمة جنايات الرصافة ببغداد حكما بالسجن لمدة 10 سنوات بحقّ أحد المجرمين عن جريمة بيع (ابنه) مقابل مبلغ ماليّ)!

هذه الكارثة المجتمعيّة يمكن مواجهتها عبر القبضة القانونيّة والأمنيّة، وكذلك بوساطة التوعية والتثقيف المجتمعيّ بخطورتها عبر وسائل الإعلام والمنابر الدينيّة والثقافيّة!

والحقيقة هذا الموضوع شائك ومحيّر، ولو كان البيع من شخص غريب يمكن أن تفهم الأمر على أنه اتّجار بالبشر، ولكن حينما يكون الأب هو البائع ألا يفترض أن يكون هنالك تدخّل رسميّ بالموضوع لعلاج أصل المشكلة وليس تعقيدها بسجن الأب، الذي ربّما أقدم على هذه الجريمة بسبب الفقر، أو ربّما المخدّرات!
فمَنْ يعيل عائلته خلال فترة سجنه؟

وفي كلّ الأحوال لا يمكن تفهّم كيف أنّ أبا يحاول بيع ولده؟

وهل هو الفقر والعوز أم المخدّرات، أم هو الاستخفاف بالقيم الإنسانيّة يدفع لمثل هذه التصرّفات التي لا تتّفق مع قوانين السماء والأرض؟

هذه الكارثة المجتمعيّة يمكن مواجهتها عبر القبضة القانونيّة والأمنيّة، وكذلك بوساطة التوعية والتثقيف المجتمعيّ بخطورتها عبر وسائل الإعلام والمنابر الدينيّة والثقافيّة!
الاتّجار بالبشر آفة مجتمعية ينبغي الوقوف ضدّها والعمل على حصرها أو تقليلها قدر الإمكان عبر انتشال الفقراء والمعوزين من واقعهم المرير ومدّ يد العون إليهم، وعدم التهاون مع الذين يتاجرون بالإنسان وإنزال أقسى العقوبات القضائيّة بهم.

لا تستهينوا بالإنسان وتجعلوه بضاعة لأنّنا سنكون حينذاك على طريق سحق المجتمع والدولة، والحاضر والمستقبل!