التاريخ يعيد نفسه

2021.08.01 | 06:18 دمشق

thumbs_b_c_55ceb2d2005d88895ad10e30c27af9b0.jpg
+A
حجم الخط
-A

عادت تونس إلى صدارة المشهد من جديد وسجلت يوماً تاريخياً جديداً في الحقبة التي غيرت ملامح العالم خلال الألفية الثالثة.

يذكرنا ذلك اليوم بيوم اندلاع الثورة التونسية مع فرق بسيط، أننا كنا في غاية الأمل حينذاك، بينما تسيطر على معظمنا حالة من الإحباط والاستياء العام في هذه المرحلة، وبالرغم من هذا وذاك فإن العالم ما زال يحبس أنفاسه مرة أخرى منتظراً وضوح الصورة وبيان النتائج على أمل ألا يكون ما يتخوف منه حقيقياً.

لكنه مع الأسف بات أمراً واقعاً، لقد حدث الانقلاب في هذه المرة بالشكل الأكثر ليونة وبالطريقة الأكثر حضارية ومن دون أي خسائر بشرية تذكر، إذا لم نحسب الاعتقالات التي يقوم بها الطرف المنتصر في مواجهة الطرف المُنقلَب ضده.

فتح هذا الانقلاب الباب مجدداً للجدل السياسي بين مؤيد له ومعارض، وأوضح بشكل جليّ الشرخ الذي تعيشه مجتمعاتنا من جراء الانقسام الواضح بين من يؤيدون الديمقراطية بصرف النظر عن النتائج، وبين من يرفضونها إذا تسببت باستلام من نختلف معه إيديولوجياً مقاليد السلطة.

إن انحراف المسار الثوري والانقلاب عليه لا يعني سوى طعنة خبيثة في ظهر الربيع بمجمله

ما زالت تونس تعد المنارة بوصفها مهداً لثورات الربيع العربي، بل إن كثيرا من البلدان التي مُنيت بهزائم كانت ما تزال تعلق على تونس آمالاً كبيرة لأنها التجربة الوحيدة الناجية تقريباً من محرقة الثورات منذ عام 2011، إضافة إلى كثير من الخبرات التي من الممكن أن نكتسبها من تونس كبلاد أو كتجربة ثورية حديثة العهد.

إن انحراف المسار الثوري والانقلاب عليه لا يعني سوى طعنة خبيثة في ظهر الربيع بمجمله، ولا يقتصر على تونس فحسب، بل ربما يعد رسالة واضحة لكل من حلم بالتغيير وعمل من أجله.

لا يذكر التاريخ في العالم العربي تجربة ديمقراطية فريدة أو مستمرة منذ بداية الاستقلال حتى يومنا الحاضر، ذلك أن حالة الحاكم العسكري أو المندوب السامي إذا كانت قد انتهت شكلاً لكنها استمرت بشكل ضمني، من خلال الحكومات المتوالية التي سعت لترسيخ حالة التبعية العسكرية عن طريق الانقياد لأحد المعسكرين المسيطرين منذ الأزل.

كما أن مرحلة التحول إلى جمهوريات كانت متخمة بحالات التجييش الوطني أكثر من العمل على ترسيخ وعي مجتمعي بفكرة الديمقراطية وتعزيز الاستقلال الحقيقي.

وبالرغم من تجربتنا الفقيرة في الديمقراطية وضحالة الوعي العام بما يترتب علينا للعمل على تحسين شكل الحياة السياسية، فإن حالة نشوء الوعي السياسي في مرحلة معينة، كانت عاملاً مهماً في تشكيل لبنة من أجل الثورات ضد أنظمة الاستبداد التي فرضت سيطرتها إبان الاستقلال، لكن ذلك الوعي لم يمنع من وقوعنا في فخ الاستقطابات السياسية التي ارتكزت بشكل أساسي على مرجعية دينية، فبات المناهضون للفكر الديني متحالفين مع الاستبداد العسكري للإطاحة بأي محاولة لتسلّم التيار الديني السلطة فيما عملت التيارات الدينية على استقطاب الشرائح الاجتماعية بأشكال عديدة ما جعلها تتوسع بشكل أفقي.

شكل صندوق الاقتراع أول ثمار الثورات التي نحلم بقطافها غير أننا منحنا الفرصة للمتربصين بسبب السذاجة وعدم الوعي السياسي، للانقلاب عليها فيما بعد مدفوعة بقوى غير وطنية وغير محلية مستغلة انعدام الوعي السياسي الذي نعاني منه كمجتمعات نامية.

لقد كانت تونس هي التجربة الأقرب إلى النجاح والمثال الأقرب للحالة المنشودة من ضمن ثورات الربيع العربي واستمرت بشكل جيد حتى حدث ما حدث يوم أمس، إذ أعلن الرئيس المنتخب نفسه رئيساً للحكومة، مانحاً بذلك نفسه سلطات وصلاحيات واسعة مستفيداً بذلك من ثغرة دستورية فات الشعب التدقيق فيها حين طرح الدستور التونسي للاستفتاء، وعلى الأغلب أن ذلك ما كان سيحصل، حتى لو لم تكن تلك الثغرة موجودة.

الأمر المؤسف أننا من جراء الحالة التونسية وما سبقها من تجارب أخرى، فإننا لم يعد بإمكاننا ذكر الاستبداد العسكري إلا مقترناً باليسار العلماني الذي كان شريكاً في أكثر السيناريوهات حساسية في العالم العربي لتسهيل الانقلاب على صندوق الاقتراع.

وإذا أردنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيصبح لزاماً علينا محاولة تفكيك أسرار ذلك الارتباط الغريب بين التيارين الذين من المفترض ألا يكونا حليفين بسبب اختلاف الرؤى والإيديولوجيات.

أي محاولة لترسيخ أي تجربة ديمقراطية في العالم العربي ستواجه بطرق خبيثة ومختلفة الأدوات عما مضى في سبيل إجهاضها

تبدو ملامح الحرب الباردة واضحة من خلال تفاصيل ذلك الانقسام الذي أرخى بظلاله على مفاصل الحياة كلها، ويبدو أننا أمام مرحلة جديدة واضحة المعالم رسمت تفاصيلها بوادر العداء بين شرائح المجتمع الذي اتسع الشرخ بينها، تكللت في النهاية بترخيص الانقلاب على أقل مظاهر ممارسة الديمقراطية المتمثلة في صندوق الاقتراع لأنه أوصل من يخالفنا في الرأي إلى مواقع السلطة.

ومما سبق يتبين أن أي محاولة لترسيخ أي تجربة ديمقراطية في العالم العربي ستواجه بطرق خبيثة ومختلفة الأدوات عما مضى في سبيل إجهاضها، علاوة على أن هذه الحقبة اتسمت بسمات واضحة تصدرها خذلان المثقفين ونخبة المجتمع للشرائح الشعبية، وإنكار حق التيارات المختلفة في الإيديولوجيا من الوصول إلى الحكم.

يسيطر على حالة الانقسام فوضى من الثرثرات يعلو فيها صوت النخبة التي تصم أذنها عن صوت العامة، ترافقها حالة تعالٍ وفوقية، على اعتبار أن الشريحة المثقفة هي أدرى بمصلحة البلاد والمجتمع، وأن التحالف الذي تعقده مع الحكم العسكري الدكتاتوري هو الحل الأنجع لتثبيت ديمقراطية البلاد وفي هذا بحدّ ذاته تتضح ملامح دكتاتورية جديدة متنكرة.

الحكاية نفسها تعيد خلق تفاصيلها مع تعديل رتوش بسيطة في الشكل متقصدة الحفاظ على المضمون ذاته، فالسيناريو مكتوب سلفاً وجاهز، والأدوار مقسمة بين الأبطال وبين من يدير المشاهد من خلف الكواليس والنتيجة التي باتت واضحة أن ديمقراطيتنا التي اعتقدنا أننا سنموت في سبيلها ستقتلنا من اليأس قبل أن تتحقق.