البوطي.. الصّراع مع القرضاوي في ميدان الثّورة ودلالاته

2021.08.15 | 06:11 دمشق

2012_karadaoui_199485317.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يخفى على أحدٍ أنّ تباينًا واضحًا ظهر في الموقف من الثّورة السّوريّة بين الدّكتور البوطي والدّكتور يوسف القرضاوي، فقد كان الثّائرون يتشوّقون لسماع خطب القرضاوي ويهتفون باسمه في المظاهرات على عكس البوطي الذي أحرقت كتبه وهتف النّاس ضدّه في مظاهراتهم واعتصاماتهم.

  • موقف البوطي من القرضاوي والاتّحاد العالمي قبل الرّبيع العربي

يظنّ بعض المتابعين أنّ حالة التباين في المواقف بين الدّكتور البوطي والدّكتور القرضاوي وليدة الرّبيع العربي، والحقيقة أنّ هذا التباين الصّارخ ما هو إلّا امتداد لتباين كان هادئًا على مدى عقود.

ومن خلال معرفتي القريبة والمباشرة يمكنني القول بشكل واضح: إنّ الكثيرين يظنّون أنّ الشّيخ ناصر الدّين الألباني هو الشخصيّة الأكثر رفضًا وعداءً عند الدّكتور البوطي بناء على الردود الواسعة التي كانت عليه في كتبه المختلفة، بينما الحقيقة هي أنّ الشخصيّة الأكثر رفضًا في نفس الدّكتور البوطي والتي كان يكنّ تجاهها موقفًا بالغ الحدّة هي الدّكتور يوسف القرضاوي.

وقد كان دائم التعبير عن موقفه الحادّ هذا في مجالسه الخاصّة وفي حلقاته الضيّقة مع انتقادٍ أخفّ وطأة في اللقاءات العامّة، وذلك على الرّغم من المجاملات التي كان يحرص الدّكتور البوطي على ممارستها مع الدكتور القرضاوي إذ كان يهديه كتبه مع عباراتٍ جميلة ملؤُها التقدير والإعجاب وهذا مخالفٌ للحقيقة والواقع.

ومن الجدير ذكرُه أنّ موقف الدّكتور البوطي من الدكتور القرضاوي ينسجمٌ إلى حدٍّ بعيد مع موقف عموم المؤسسة الدينيّة السّوريّة التقليديّة، فهم يرون في الدّكتور القرضاوي حالة تمرّد على الفقه التقليدي وخروج عن نسقه العام، وقد كان محلّ انتقاد من غالبيّتهم على أنّ الأمر عند البوطي كان أشدّ وأقسى، وكان يتمّ الهجوم على الدكتور القرضاوي تحت ستار رفض "فقه الأقليات" وأحيانًا مهاجمة "المجلس الأوروبي للإفتاء" الذي كان يترأسه الدّكتور القرضاوي، أو مهاجمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

وممّا قاله الدّكتور البوطي عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قبل انطلاق قطار الرّبيع العربي في أحد دروسه العامّة في جامع الإيمان واصفًا إيّاه بالعبث في الشريعة:

"من مظاهر العبث في الشريعة الإسلاميّة والشرود عن قواعدها ومبادئها ما يمكن أن نلخصه بما يلي:

وجد في هذا العصر ما يسمى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والحقيقة إنّ ظهور هذا الاتحاد أو ظهور ما ينبئ باجتماع علماء المسلمين كلهم وظهورهم في مرجعيّة واحدة شيء جيد وشيء رائع من حيث المبدأ وكلمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تثلج الصدر وتدل على أنّ هذا العهد يظهر فيه علماء المسلمين وكأنهم كتلة واحدة وجماعة واحدة وينطلقون من جماعة واحدة.

ولكن عند التدقيق في الأمر نجد أن ما يسمى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يضم خليطا فيهم العلماء وفيهم أنصاف العلماء وفيهم من ليسوا من الفقه الإسلامي في شيء، يعني لا علاقة لهم بالفقه الإسلامي، مختصون بالفلسفة والقانون والتاريخ، وكلهم حشروا ضمن ما يسمى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

هذا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مركزه في أوروبا وليس في أي صقع من عالمنا الإسلامي، ولا بأس أينما كان مركزه ما دام هنالك وحدة لعلماء المسلمين تنطلق لخدمة الإسلام من رؤية صحيحة ومن انضباط والتزام بأحكام الإسلام فهذا ممتاز.

ولكن كما قلت لكم هذا خليط، ولكن لماذا وجد هذا الخليط؟ لأن هذا الاتحاد في الواقع إنما وضعته وأوجدته أيدٍ حزبية فالمصلحة الحزبية هي التي تحكّمت، والهويّة الحزبيّة هي التي كانت بديلًا عن العلم وهذه مصيبة، ولقد رأيت إنسانًا فاضلًا قبل سنوات مختصّاً بالفلسفة علمتُ أنّه عضو في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وقلت له: هل أنت مختصّ بالفقه الإسلامي؟ قال: لا؛ أنا بالفلسفة، فقلت: كيف رضيت أن تكون عضوًا في هذا الاتحاد؟ فقال: أنا أستفتى فقط في أمور العقيدة! وهذه أول مرة أعلم أن هناك فتاوى في أمور العقيدة فنحن نعلم أنّ الفتوى تكون في الأمور الفقهية، ولكنه وضع لأنّ له هوية حزبيّة".

ثم استمرّ الدّكتور البوطي على مدى أربعين دقيقة ينتقد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ويشنع عليه بلغةٍ لا تخلو من السخرية وذكر معلومات تجانبها الدقّة والصّحة عن أنظمة وقوانين الاتحاد.

ثم عرّج إلى الحديث عن "فقه الأقليّات" وبدأ يشنّع على هذا المصطلح وعلى الفتاوى التي يصدرها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والمجلس الأوروبي للإفتاء لأهل أوروبا من المسلمين.

ومثل هذا الكلام قاله أيضًا في مؤتمر دعا له صالح كامل في شرم الشيخ عام 2005م واسمه "الملتقى الفقهي الأول" وقد قدم فيه ورقة بعنوان "هذا الهرج الأسود كيف نقضي عليه؟" وقد جعل من المجلس الأوروبي للإفتاء أحد أهم أسباب ما أسماه "الهرج الأسود"

فالدّكتور البوطي ينظر إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وإلى المجلس الأوروبي للإفتاء على أنّهما أحد أهم أسباب الانحراف الفقهي والعبث بدين الله تعالى في العالم الإسلامي وهو يحمّل الدّكتور القرضاوي بشكل رئيس مسؤوليّة ذلك فهو رئيسهما والشخصيّة الأهم فيهما وما يصدّر عنهما يعبّر عنه بالضّرورة.

 

  • المعركة البوطيّة القرضاويّة في ميدان الثّورة السّوريّة

قبل اندلاع الثّورة السّوريّة كنت أقول مقتنعًا: إنّ الدّكتور البوطي كان ينظرُ إلى مواقف الدّكتور القرضاوي فيقفٌ ضدّها مباشرة بشكلٍ تلقائيّ، لمِا كنت أعلمه من حدّة موقف الدّكتور البوطي وقسوته تجاه القرضاوي، فالعديد من مواقف البوطي في العديد من القضايا ليست نابعةً من دوافع عقليّة أو قلبيّة أو أوامر خارجيّة، بل هي نابعةٌ من سلطان العداء للقرضاوي الذي كان يتحكّم في مواقفه ومشاعره تجاه الأحداث والأشخاص في مواقف عديدة.

وتعززت عندي هذه القناعة عقب اندلاع الثّورة السّوريّة، ولا أكون مبالغًا إن قلت: إنّ أحد أسباب رفض الدّكتور البوطي للثّورة السوريّة هو انحياز القرضاوي لها، وهذا ليس السّبب الأهم بالطّبع فقد فصّلنا القول في الكثير من الأسباب الأهمّ في مقالات سابقة، لكن هذا السبب ينبغي أن يكون حاضرًا عن التفكّر في خلفيّات مواقف الدّكتور البوطي ولا يمكن إغفاله.

في الجمعة الأولى عقب اندلاع الثّورة السوريّة، وتمامًا يوم 25 من آذار "مارس" 2011م كان الدّكتور القرضاوي هو الأسبق في الحديث عن الثّورة السّوريّة من علماء الأمّة الإسلاميّة من على منبر مسجد عمر بن الخطاب في الدّوحة، وكان مما قاله:

"واليوم وصل قطار الثّورة إلى محطّة كان لا بدّ أن يصل إليها وهي محطة سوريا، ولا يمكن أن تنفصل سوريا عن تاريخ الأمة العربية.

قال بعضهم: إنّ سوريا بمنأى عن هذه الثّورات، وكيف تكون بمنأى عن هذه الثّورات؟! أليست جزءًا من الأمّة؟! أليست جزءًا من سنن الله؟! ألا تجري عليها قوانين الله في الكون والمجتمعات؟! سوريا مثل غيرها بل هي أولى من غيرها بهذه الثورات".

واستمرّ الدّكتور القرضاوي في تبنّيه للثّورة السّوريّة وذكرها في خطبه المنبريّة، وبعد أسابيع يسيرة جاء رد صريح عليه من الدّكتور البوطي في درسه العام في جامع الإيمان، وكان مما قاله:

"هنا يضطرني الحال والعمل على سدّ الثّغرات أن أقول شيئًا عن أخينا فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي.

نحن لا نشكّ بفضل هذا الإنسان وعلمه وأنا أعرفه عن قريب وبيني وبينه مودّة أيضًا، لكن عجبتُ جدًّا جدًّا للطّريقة التي اقتحم فيها ما قد رآه طريقة إصلاح لما يراه فسادًا في هذه البلدة، وأعتقد أنّه رجل علم ويعلم أن الطريقة الغوغائيّة ليست هي الطريقة التي تصلح الفساد، بل الطّريقة الغوغائية هي التي تفتح أبواب الفتنة، والعزف على وتر الطائفيّة لا يصلح الفساد أبدًا، بل يزيد الفساد بل أقول لكم يخلق الفساد، فأنا أعجب أنّ أخي الشّيخ يوسف القرضاوي يعلم هذه الحقيقة.

ترى ما الذي منعه وقد التهبت الغيرة بين جوانحه لمصير حقوق الإنسان والحريّات والقيم في هذه البلدة وأنا لا أتّهم غيرته، ما الذي منعه من أن يتوجه إلى دمشق ولسوف يجد من يؤهّلون ويرحّبون به ليجلس شريكًا مع من جلسوا مع السيّد الرّئيس وليكون هو الآخر واحدًا ممن يناقشون ويتكلمون ويبحثون ومن ثمّ ينال هو الآخر ثوابًا من عند الله عزّ وجل على هذا العمل الذي تم؟!

ما الذي منعه من أن يشدّ الرّحل إلى دمشق وهو يعلم أنّ دمشق سترحّب به أيّما ترحيب على المستوى الشعبي وعلى مستوى المسؤولين؟

لماذا آثر المنبر الأوّل منبر الغوغاء؟ لماذا آثرَ الإثارة وهو يعلم أنّ هذه الإثارة لا تفيدُ شيئًا؟

أنا أسأله سؤال مستعلمٍ لا سؤال ناقدٍ أبدًا، كانت دمشق قد رحبت به فيما مضى على أعقاب حرب غزّة، وكان قد أتيح له أن يجلس إلى السيّد الرّئيس، إذن امتلك فرصة ذهبيّة رائعة، ما دام أنّه غيور بهذا الشّكل الذي سمعناه على الإصلاحات، ويدعو إلى إصلاح الفساد بكلّ ما يملكه من قوة ومن صوت، فعندما جاء وأتيح له أن يجلس إلى السيّد الرّئيس كانت مشكلة الحزب الواحد قائمة، وكانت مشكلة قانون الطوارئ قائمة، وكانت مشكلة الحريّات قائمة، هذه المشكلات التي يعلن غيرته عليها من خلال خطابه الملتهب كانت موجودة، ولكنه لم يتحدث عن شيءٍ منها، وإنما استعاض عن ذلكَ بالمديحَ الذي كالَه جزافًا للسيّد الرّئيس.

شيء غريب، فرصة ذهبية أتيحت لكَ، جلستَ إلى جانب السيّد الرّئيس بشّار الذي يقول لي: كالَ لي المديح جزافًا، فهلّا ذكّرتَه يا أخ بهذه الإصلاحات التي تثورُ من على منبر صلاة الجمعة وتثير من أجلها؟!!"

من الواضح تمامًا أن الدّكتور البوطي وجّه رسالته هذه بعد لقاء ضمّه مع بشّار الأسد وكان جزء من الحديث فيه حول الدّكتور القرضاوي ودوره في تأجيج الثّورة، وهذا يؤكّد أنّ النظام كان يرى في الدّكتور القرضاوي أحد أهمّ الأصوات بل الصوت الأكثر أهميّة في الوسط العلمائي والأكثر وقدرة على تحريك الشّارع الثّوريّ والتأثير فيه.

ومن الواضح من خلال اللهجة الهادئة نسبيًّا التي حاول الدّكتور البوطي التحلّي بها في خطابه للقرضاوي على خلاف عادته في الردّ على الخصوم؛ أنّ توجّهًا كان عند النّظام يقوم على محاولة تحييد الدّكتور القرضاوي ما دام احتواؤه غير ممكن، وقد حاول النّظام ذلك على عدّة أصعدة منها هذه الرّسالة الهادئة الأخويّة من الدّكتور البوطي، لكن عموم محاولات النّظام فشلت في تحييد القرضاوي أو إبعاده عن مشهد الثّورة السّوريّة.

وبالمقابل فإنّ الدّكتور القرضاوي لم يكن يوجه ردودًا خاصّة إلى البوطي على نمط هذا الردّ الذي جاء به الدّكتور البوطي بل كان يذكره ضمن خطب الجمعة محرضًا إيّاه على التخلي عن موقفه، وذلك في مواقف كثيرة ومن ذلك أنه قال في خطبة لاحقة لردّ الدّكتور البوطي عليه:

"سينتصر إخواننا في سوريا التي يحكمها حكم باطش جبار صار له أكثر من أربعة عقود وأسرة واحدة تحكم الشّعب السّوري.

انتهى عهد الأسر يا شيخ بوطي، الأسرة التي تحكم سوريا ليس لها أصل، لا تحكم بدين ولا تحكم بشريعة ولا بقرآن ولا بسنّة، إنّها تحكم بحزب البعث.

ثمّ يقول: كلّ يوم يقتل في سوريا عشرون، ثلاثون، أربعون، وربما خمسون، يقتلهم النّظام الذي يكشف للنّاس عن أنياب الأسود ويقتل الناس ولا يبالي، يقتل النساء ويقتل الرجال، ويقتل الشباب ويقتل الشيوخ، ويقتل الأطفال، يقتلهم بطريقة بشعة فظيعة تقشعرّ منها الأبدان، وهذا ما نراه جميعًا من النّظام السّوري.

أريد من العلماء، أريد من الشيخ البوطي وأمثاله أن يكونوا كعلماء السّلف الذين وقفوا مع الأمّة ضدّ الطّغاة.

لا يجوز لعالم أن يكون مع طاغية، لا يجوز لعالم أن يكون مع ظالمٍ باغٍ، والعالم الحقّ يجب أن يكون مع الحقّ، مع العدل، مع الرّحمة، مع النّاس، مع الشّعب".

وبعد فشل محاولات تحييد الدّكتور القرضاوي شنّ النّظام عليه هجومًا كاسحًا وأطلق عليه لقب "شيخ الفتنة" وسلّط عليه ألسنة خطبائه على المنابر وفي الفضائيّات، لكنّ ممّا ينبغي ذكره هنا أنّ الدّكتور البوطي رغم احتدام الصّراع بينه وبين القرضاوي وموقفه الحادّ الذي كان يعبّر عنه تجاهه في لقاءاته الخاصّة غير أنّه في مجالسه العامة ودروسه المسجديّة لم يكن جزءًا من حملة السّباب والشتم التي وجّه النّظام إليها العمائم التابعة له، بل بقي ينتقده بلغة متراوحةٍ بين عبارات الإخوّة والغمز المبطن المعتاد دون أن يطلق عليه الأوصاف التي كان يتبنّاها النّظام.

ومع تقدّم أحداث الثّورة السّوريّة وانتقالها من المظاهرات السلميّة إلى العسكرة تطوّر خطاب الدّكتور البوطي تجاه عمليّات الجيش السوري والفصائل العسكرية للثّورة، فما معالم هذا الخطاب ودلالات تطوّره؟ هذا ما سنجيب عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.