البلاد الثكلى

2020.03.24 | 23:02 دمشق

5f6882d2b35b133f6455ca6c.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من عمره، أمره عناصر الأمن بالترجل من السيارة وفتشوها جيداً، مارسوا معه كل أنواع الذل متعمدين إهانة ذويه الموجودين معه ثم اقتادوه من على حاجز دوار الثامن من آذار في مدينة حمص في عام 2012 ولم تصل عنه أي أخبار فيما بعد.

على الرغم من محاولات أمه الحثيثة ـ لكونه يتيم الأب ـ في تقصي الأخبار عنه أو محاولة معرفة مكان احتجازه، وسفرها المستمر بين حمص ودمشق، والتنقل من سجن إلى آخر في المعتقل الكبير الذي لم تستطع الهروب منه، لكنها لم تصل إلى أثر أو يقين.

عاشت بقية أيامها في انتظار خبر أو بصيص أمل، مشت في طرقات مختلفة وغريبة بهدف أن يطمئن قلبها إلا أن ذلك لم يحصل.

استغل مشاعرها كثيرون وتاجر بألمها متنفذون كثر، سرقوا نقودها أو ما تبقى منها، كذبوا عليها من دون أن يكون لدى أي أحد منهم معلومات حقيقية، وأرادت هي أن تصدق أي وهم قد يذهب بها إليه فصدقت كل كذباتهم وبقيت لها خيبة كبيرة.

الشيء الوحيد الذي رفضت أن تصدقه، هو تلك الوثيقة التي منحتها إياها دائرة الأحوال المدنية في منتصف العام الفائت، التي تفيد أنهم حصلوا على ما يؤكد وفاته في أحد السجون فأصدروا له بناء على تلك المعلومات وثيقة وفاة.

لم يفاجئني ما فعلته السلطات معها فذلك أمر عهدناه جميعنا، بل ربما أدهشني وأنا التي لم أكن أعرف عن الأمومة شيئاً بعد، إصرارها على المضي في الانتظار على الرغم من كل ما يسببه من ألم ومن خيبة أمل وخذلان أو انكسار.

فاجأني أكثر إيمانها الكبير وثقتها العمياء بأن تلك الوثيقة ليست حقيقية وأنها سوف تستمر في البحث والانتظار حتى تراه أمامها حيّاً يرزق.

مرات قليلة تلك التي رأيتها فيها تبكي فيها على الرغم من أننا قضينا وقتاً طويلاً معاً، كانت ومازالت شعلة لا تنطفئ من الأمل والحيوية.

لم يعوّضها عن غيابه أحد من أبنائها الآخرين ولم تذهب

أي قوة تلك التي تمتلكها تلك النساء ليتحملن هذا الألم ويستمررن في الحياة، على الرغم من الأسى الذي بات معجوناً بملامحهن

خلفهم في سفرهم كما لم يهدأ قلبها في الإقامة خارج البلاد، عادت بعد فترة وجيزة لتستمر في رحلة البحث عن أمل جديد قد يصل بها إليه.

معرفتي بها وبكثيرات ممن اختبرن معها المعاناة ذاتها، جعلتني أمتنع عن تقديم المعايدات للأمهات في عيد الأم إذا صحت التسمية، وجعلتني أخجل من الفرح أمام مصابهم الكبير.

أي قوة تلك التي تمتلكها تلك النساء ليتحملن هذا الألم ويستمررن في الحياة، على الرغم من الأسى الذي بات معجوناً بملامحهن وعلى الرغم من قسوة الدرس الذي اختبرهن به الحياة مراراً وفي أكثر من موضع، وكيف استطعنا تقبل ذلك الألم والتعايش معه من دون أن ننتبه لنتائجه المفجعة.

لقد اختبر الشعب السوري أنواعاً وأشكالاً من المعاناة لم تختبرها ربما شعوب كثيرة ممن عاشوا الأحداث نفسها في هذه الحقبة، غير أن معاناة الأمهات السوريات فاقت كل التصورات وتجاوزت الحد المألوف.

في يوم الأم قد نعجز عن توجيه المعايدة والتهنئة لأم الشهيد وأم المعتقل أو أم المغيبين والمختفين الذين لا يعرف لهم موقع أو مكان، لكننا نتمكن من غض أبصارنا ومتابعة تفاصيل يومياتنا العادية متناسين حشرجة امرأة في الطرف المواجه لنا على جبهات الموت بعد أن مات ابنها من البرد في حضنها.

في اعتقادي أن الأم السورية لم تعد بحاجة يوم تحتفل فيه بأمومتها، ولا تنتظر كتابة القصائد تبجيلاً وإكراماً لها، إنها بحاجة لاستعادة أمومتها التي سرقها الطغاة وسلبتها إياها الحرب، بحاجة أن يعترف العالم بألمها ويشعر به حتى لو لم يقدم لها هدية عرفاناً بجهدها الغريزي.

إنهن بحاجة إلى أن يعيشن في منزل صغير يحيطنه بدفئهن، في مواجهة التقلبات الجوية والإنسانية التي قد تعصف في الخارج.

لقد باتت البلاد ثكلى من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها وفي هذا الموت الوفير ربما تنصهر الانتماءات وتذوب الفروق، غير أن ذلك قد لا يغير من الأمر شيئاً سوى أنه يجعلنا نتقاسم الألم ليصبح أقل تأثيراً وأخف وطأة.

المجد إذن للنساء والأمهات المتألمات بصمت واللاتي ما زلن يبتسمن في وجه هذا العالم البائس ويمنحنه السلام، ويخبرننا أن على هذه الأرض ما يستحق الأمل على الرغم من المحاولات الكثيرة لاغتياله.

كلمات مفتاحية