البلاء الشديد.. صفحاتٌ من جحيم غوانتانامو

2020.07.09 | 00:05 دمشق

orj9zd1_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

من الأسطر الأولى وفي مقدمة الكتاب، يدهشك "فايز الكندري" السجين رقم 552 بمعرفته العميقة بوقائع جمهوريات الظلام، وترتيبها في سلم الإجرام، فيخبرنا "لم تكن غوانتانامو أسوأ سجنٍ في التاريخ البشري، هناك سجونٌ أشدُّ توحشاً كالتي يديرها زبانية بشار".

مع أن الحديث في صفحات هذا الكتاب ستدور حول يوميات المعتقلين في سجن غوانتانامو، بتفاصيل غاية في الدقة وروعة التصوير، حتى لتخال نفسك وأنت تنتقل من صفحة إلى أخرى أنك تتنقل في عوالم فيلم هوليودي مصنوع ببراعة عالية.

سيمضي بك فايز الكندري" في رحلةٍ مثيرةٍ وشديدة الألم، من سجنه الأول في أفغانستان، إلى سجنه في قندهار، انتهاءً بسنواتٍ مريرةٍ في جحيم غوانتانامو، وصمة عار الحضارة الحديثة، سيما أنه يدار من بلدٍ يرتفع في ساحتها نصبٌ لتمثال الحرية، بلدٍ سجَّل في دفاتره الآباء المؤسسون، أبلغ نصوص العدالة والقيم الإنسانية.

ستمضي في صفحات هذا الكتاب، وقد شدَّ كاتبه كلتا يديك بوثاق متينٍ إلى ذيل جواده، يجرُّك في منعرجاتٍ وعرة، بين أفظع ما تفنن به الإنسان من طرق التعذيب، المجسِّد لأقذر ما يمكن أن يصدر عن وحش يتخفى في هيئة إنسان، وصوراً من الثبات والصبر تتجاوز حدود ما يرقى إليه الخيال، فلا يتركك إلّا وأنت منهك النَّفس، وقد تمكن الأسى والألم من مطاوي روحك، كيف لهذا أن يحدث في عالمٍ نخاله معنياً بحقوق الإنسان.

ستطالعك صورٌ من التعذيب الوحشي، بحيث تغدو سجون هتلر مقارنةً بها، ضرباً من ضروب اللهو الساذج.

لم يكن هناك سجّانون أو جنود، بل كانوا وحوشاً ضارية تبهجهم رائحة الدم وتطربهم صرخات المعذبين.

هذه الانتهاكات التي ترقى إلى أعلى مستويات الجريمة المنظمة، لم تكن بدعاً أو سلوكاً فردياً أو نزوة من بعض الضباط، إنما كانت نهجاً مدروساً بعناية وينفذ بدقة متناهية

في جميع مفاصل الحياة في ذلك السجن الرهيب، يتم خلع الملابس كاملة عن السجين، حال التحقيق معه أو عقوبته لأتفه الأسباب، لمجرد العبث والتسلية، ويمضون به هنا وهناك عارياً إلا من جلده الذي تسلَّخ من شدة التعذيب المستمر، ويبالغون في تقييده حتى تتجرح ساعداه وتتحطم عظام صدره وتنخلع كتفاه.

شأنهم شأن سائر الأنظمة القمعية، يطلق الأميركان في سجن غوانتانامو، أسماء خادعة على عمليات التعذيب المستمرة دونما سببٍ أو هدف، مثل "الاستجواب المعزز".

في عام "2005" عمدوا لإتلاف سائر الفيديوهات التي تسجل جلسات التحقيق مع السجناء وطرائق التعذيب التي نفِّذت فيها، بسبب فظاعتها وكونها مدمرة لسمعة وكالات الاستخبارات، وكأن لهذه الوكالات سمعة طيبة أصلاً.

هذه الانتهاكات التي ترقى إلى أعلى مستويات الجريمة المنظمة، لم تكن بدعاً أو سلوكاً فردياً أو نزوة من بعض الضباط، إنما كانت نهجاً مدروساً بعناية وينفذ بدقة متناهية، تؤكد أن منفذيها خضعوا لمستوياتٍ عاليةٍ من التدريب، شأنها شأن المعتقلات السورية والتعذيب الممنهج فيها.

في كتابه "مزرعة الحيوان" يحدثنا "جورج أورويل" حين تقوم الخنازير الحاكمة، بإعادة صياغة القوانين، فبدلا من عبارة «لا يجوز لحيوان أن ينام على سرير» حتى لا تتشبه الحيوانات بأسيادها من البشر، تتحول العبارة إلى «لا يجوز لحيوان أن ينام على سرير تحته مفرش»، وكي تكون الإدارة الأميركية بمنجاة عن مخالفة المعاهدات الدولية، وهي ترتكب أفظع الانتهاكات، وفي مقدمتها اتفاقية جنيف الثالثة، عن معاملة أسرى الحرب المعدلة والمعتمدة عام 1949، فقد عمدت إلى تغيير اسم الأسير إلى "عدوٍ مقاتل" وهذا خارج عن نصوص الاتفاقية.

هذه الآليات في تدمير الكينونة الإنسانية، والسحق النفسي والجسدي المستمر للسجين، في أعلى مستوياته، كان كما كشف التقرير الصادر عن لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، نتيجة برنامجٍ صممه وأشرف على تنفيذه الطبيبان النفسيان "جيمس ميتشل" و"بروس جيسين" مقابل حصولهما على مكافأةٍ بلغت ملايين الدولارات، وقد كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" تواطؤ أعمدة الطب النفسي مع الـ (CIA).

من الملفت للنظر أنَّ العالم النفسي الذي وضع برنامج التعذيب في غوانتانامو، صرَّح (لقد تحطمت كلُّ الدراسات النفسية التي تعلمناها على صخرة غوانتانامو، لقد فشلنا في تحقيق أهدافنا من هذا المعتقل).

في الساحة الثالثة من سجن تدمر، حيث تُرتكب أفظع المجازر والقتل الدموي، كُتب في صدر الساحة، "ستقف يوماً في محكمةٍ قاضيها رب العالمين"، وفي غوانتانامو كتبوا "الشرف ملزمٌ للدفاع عن الحرية" ما أسخف الشعارات الكبيرة حين تكون مسوغةً لأفظع الانتهاكات.

لقد خرج فايز الكندري، "السجين رقم 552" ومثله كثيرون، ليخبروا عن فظاعة تلك الجرائم، وقد عجزت تلك الأجهزة الإرهابية عن تحطيمهم، فكانوا شهداء على الإجرام الممنهج، الذي ترعاه أعظم دولةٍ في عالمنا هذا.

في الساحة الثالثة من سجن تدمر، حيث تُرتكب أفظع المجازر والقتل الدموي، كُتب في صدر الساحة، "ستقف يوماً في محكمةٍ قاضيها رب العالمين"، وفي غوانتانامو كتبوا "الشرف ملزمٌ للدفاع عن الحرية" ما أسخف الشعارات الكبيرة حين تكون مسوغةً لأفظع الانتهاكات.

ليس بالإمكان الإحاطة بذلك الكم الهائل من الوقائع والحوادث التي يرويها "فايز الكندري" بأدقِّ التفاصيل، مختزلاً أربعة عشر عاماً من العذاب والتحطيم المستمر، بين دفَّتي هذا الكتاب، إنما هي نظرةٌ متصفحةٌ لهذا العالم المخيف الذي يصنعه الإنسان متلذذا بقتل أخيه الإنسان.

يختم السجين رقم "552" رحلته المضنية في توثيق شلال الذكريات الذي لا ينقطع، "لقد كانت اللحظات الأخيرة في غوانتانامو من أصعب اللحظات، إنّها كطعنة السكّين دخولها مؤلم وخروجها".

كتاب البلاء الشديد صدر حديثاً

عن مؤسسة "جسور للترجمة والنشر"