خلال مشاركتي في الدورة الرابعة للمؤتمر السنوي للأبحاث حول سوريا الذي نظَّمه مركز حرمون، وأقيم في إسطنبول بين الأول والثاني من شهر أيلول/ سبتمبر 2024، لفت انتباهي عدد من الأبحاث التي تحاول التأسيس لنوع من الوعي التاريخي، عبر شكلٍ من أشكال النوستالجيا، ليس بوصفها ذاكرة جماعية فحسب، بل بوصفها أداة تسعى لتشكيل هوية سورية، وذلك وفقاً لدراسات الذاكرة التاريخية، والتركيز على أهميتها في بناء وعي جمعي، حيث يشير الباحث باول كونرتون (Paul Connerton) إلى أنَّ المجتمعات التي تعاني من اضطرابات جذرية تلجأ إلى بناء ذاكرة جماعية تحاول من خلالها الحفاظ على هويتها الخاصة، عبر الاحتفاظ بموروثات ماضية تعدها جوهرية، كما فعل الكاتب السوري خالد خليفة في روايته "الموت عمل شاق" حين حاول استحضار الماضي في بنية التفكير الاجتماعي، على اعتبار أنه وسيلة تكوين ذاكرة مشتركة.
القيمة الاجتماعية للذاكرة التاريخية
في المؤتمر السنوي للأبحاث حول سوريا تمَّ تقديم ورقة بحثية للباحث حيان دخان، وقد وسمت باسم "الذاكرة، الخوف، والطائفية: تحقيق في وجهات النظر المسيحية والعلاقات بين الطوائف في محافظة الحسكة"، حيث بيَّن الباحث كيف أثَّرت الذاكرة الجمعية لمسيحيي محافظة الحسكة على موقفهم من الثورة السورية، فقد تميز موقف الطائفة المسيحية بالحذر والقلق على مستقبلهم، بوصفهم أقلية دينية تعيش ضمن بيئة اجتماعية تشهد حالة من الغليان الثوري، فكانت مجتمعاتهم تشير بسلوكياتها إلى الخوف من الآخر –المسلم- وبذلك أثَّرت ذاكرتهم التاريخية على موقفهم هذا؛ إذ إنَّ ذاكرتهم التاريخية تشير لحالة من التهميش والتمييز الذي طال وجودهم الاجتماعي، فقد شهدت العقود الأخيرة تراجعاً كبيراً في أعدادهم، وإهمالاً واضحاً من قبل النظام السياسي لوجودهم، الأمر الذي دفع بعضهم للهجرة، كما عمدت سياسة النظام الطائفية إلى تعزيز هذه المخاوف لديهم مع بزوغ الشرارة الأولى للثورة عبر إلباس الثورة لبوساً إسلامياً متطرفاً، وربطها بالذاكرة التاريخية للمسيحيين في المنطقة في فترة الفتوحات الإسلامية والتغيير الديني والاجتماعي الذي تبعه.
كما قدَّم الدكتور فاروق إسماعيل ورقة بحثية حول"الوثائق الكتابية القديمة في سورية: الواقع وآفاق المستقبل"، وقد زعم أنَّ التوثيق التاريخي في أي محافظة سورية، أو عند هذه الشريحة الاجتماعية أو تلك، له أهمية كبيرة في فهم الواقع، وفي ضرورة وضع استراتيجية لرسم تصورات للمستقبل، إضافة إلى أنَّ ذلك التوثيق يوفر فرصة للجيل الذي تربَّى خارج سوريا لمعرفة تاريخه، فقد يتذكَّر ابنك وحفيدك بدايات أحداث الثورة، ولكنَّهما بالتأكيد يجهلان ما كان يحصل قبل ذلك، أو يحتاجان إلى فهم وأجوبة، فالبحث في الذاكرة التاريخية السورية يجب أن يكون مشروعاً علمياً متواصلاً، يسلط الضوء على معاناة المواطن السوري اليومية قبل الثورة، ومعرفة أشكال هذه المعاناة، وهل لهذه المعاناة أسباب إثنية، وهل هناك من لم يكن يعاني أو لنقل كان مستفيداً من معاناة الناس؟ لعل الإجابة عن هذه الأسئلة تنقل للأجيال القادمة جزءاً من ذاكرة السوريين والأسباب التي دفعتهم للثورة ضد الاستبداد.
البُعد الهوياتي للذاكرة التاريخية
في المؤتمر السنوي للأبحاث شارك الدكتور عمار السمر بورقة بحثية حملت عنوان "ذاكرة منطقة سورية والثورة: الحفة /قضاء صهيون"، حيث وجد أنَّ العمل على تكوين ذاكرة تاريخية سورية برؤية موضوعية بعيدة عن التشويه الإيديولوجي الذي كان يمارسه النظام الاستبدادي يعدُّ مهمة أساسية في تكوين هوية وطنية سورية، فبلدان العالم تقوم بتدريس التاريخ للوقوف على الرموز التاريخية، والتعرف إليها، وتعميق التواصل بين الأجيال تحت إطار مفهوم التاريخ المشترك، وإنَّ إعادة صياغة الذاكرة الجمعية السورية ضرورة لإبعاد هذه الذاكرة من الوقوع في حالة العطب، عبر الانجرار وراء الهويات الجزئية، وتحويلها لهويات قاتلة، والمبالغة في إظهار هذه البنى التقليدية بعد أن عبث بها النظام الديكتاتوري، ويعتقد الدكتور عمار أنَّ تناول الذاكرة الاجتماعية لأهل الحفة- في ورقته البحثية- من شأنه إحياء روح هذه الجماعة التي عانت من الكبت خلال الاستبداد العسكري.
كما قدَّم الباحث حسن عبد الله الخلف ورقة بحثية تتناول "روايات الفرات: جدل السردية الرسمية والسردية المضمرة"، حيث تحدَّث عن مطمح السلطة السياسي، وبيَّن ممارساتها في طمس الهوية الفراتية، فقد تعمَّدت السلطة إغراق المواقع الأثرية في المنطقة التي غمرتها مياه سد الفرات، ونقلت سكان القرى المغمورة إلى الشريط الحدودي في الجزيرة السورية بين سوريا وتركيا، وقد وضَّح أنَّ الروايات قد تكون الوسيلة التي نتمكَّن من خلالها من نقل رسالة تصور حال منطقة جغرافية – منطقة الفرات- عانت من التهجير القسري في فترة زمنية بعيدة نسبياً، الأمر الذي يجعل عدداً كبيراً من الأبناء مغيبين عن الحقيقة التي لجأت السلطة في سورية، وعلى مدار عقود، لإخفائها وتبريرها، عبر إشاعة روايات مغايرة تقول إنَّ التهجير الذي طال سكان وادي الفرات كان فقط بسبب إنشاء السد، وقد عمد على منع أيِّ محاولة نقد لهذه السردية الإيديولوجية ومحاربتها.
ختاماً، إنَّ الوقوف على الذاكرة التاريخية للشعب السوري وتوثيقها بشكل علمي وموضوعي، من خلال اللجوء إلى المؤتمرات والتجمعات العلمية والثقافية، عمل علمي من شأنه الحفاظ على بنية المجتمع السوري، وجعلها بنية متماسكة اجتماعياً وثقافياً، بشكلٍ يقود إلى تعزيز روح الانتماء بين الأفراد السوريين الذين يطلعون على هذه الذاكرة التاريخية التي ينتمون إليها، وبالتالي تربط الأجيال الحاضرة بماضيها، وتعزِّز من الانتماء الاجتماعي، وتساعد على تشكيل هوية جماعية سورية في المستقبل.