البراهين المُرَّة على أنَّ الأسد يحكم إدلب الحُرّة

2021.04.09 | 06:58 دمشق

untitled-2-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

 أراد أبو مروان توثيق وكالة في المحكمة الشرعية في إدلب الحرّة، حتى يرسلها إلى صديق له في تركيا كي ينوب عنه في قضاء شؤونه المالية والتجارية، ويحمل عنه وزر السفر، ويعفيه من وعثائه. أبو مروان مدير مدرسة، ووقته ثمين، وقد أعدَّ لكل شيء عدّته، حتى لا يُخدع أو يتخذ حوته سبيله في البحر سربا، فأحضر شاهدين مع وثائقهما في الميقات، والشاهدان لم يلبيا دعوته متطوعين لله، إلا بشرط  الوفاء بالمواعيد، فالوقت ثمين، والوقت سيف، وفي أيامنا رشاش أو قنبلة، وقد  قدَّر أنَّ التوكيل سيستغرق ساعتين حقبا، لكن حسابات الحقل لا توافق حسابات السوق، وسيعلم عين اليقين أنَّ الحكومة الحرة الإسلامية تحذو الحكومة البعثية حذو البوط بالبوط، والجزمة بالجزمة، سوى أنها زادت على البعث أمرًا، وهو أنها عريضة الوساد، وأنها أبعدت بناء المحكمة عن الناس والعمران، فهي مثل الكنائس في أفلام الكاوبوي، واقعة في أقصى المدينة، وليس مثل دور القضاء في مدن المسلمين في وسط المدينة بجانب المسجد، وتحظر حكومة سوريا الحرة على المواطن، مقيمًا أو نازحًا، الوصول إلى المحكمة الشرعية، رَجلًا على القدم، فهي لا تستقبل إلَّا الفرسان الميامين الراكبين في باص  الخدمة العامة، وقيل إنَّ الحكمة في ذلك، هي تحصين المحكمة من المكائد والأذى.

وللمحكمة الموّقرة ثلاثة حواجز، وَجَسا وحذرًا؛ حاجز للوثائق، وحاجز لفحص المواطنين، وحاجز لإيداع الهواتف، كما لدى فروع أمن النظام السوري، منعًا لتصوير القضاة وهم في ثيابهم الداخلية على البحر، أو صونًا لأسماعهم من رنّات الهواتف التي قد يكون فيها موسيقا محرّمة مؤدية إلى النار.

ولا يمكن ركوب الباص الأخضر إلَّا بالبطاقات، وكأنها طائرات من خطوط لوفتهانزا، والبطاقة ثمنها ليرتان.  وهو ثمن بخس، قياسًا بأجور باصات النظام الاشتراكي، لكنه غرامة وحيلة للجباية. وشراء البطاقة يتم من غرفة أُعدت لبيعها، والموظف مسلم ملتحٍ تقي ورع فاضل، وكان أمره فرطا، فلم يكن لديه فراطة، تنازل أبو مروان عن الليرات الأربع الباقية، فلم يستطع فكّ رقبة ورقة العشر ليرات، فالغرفة في بريّة قفراء على تخوم المحكمة "لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما"، فإما أن يخسر وقته الثمين، وإما أن يخسر مالًا أكثر في قطع مسافة كبيرة بباص آخر إلى طرف المدينة حقبا، وهو مدير، والطلاب ينتظرونه لنقلهم إلى بيوتهم في الساعة الثانية عشرة، والشاهدان متضايقان من هذا التأخير، وكأنهما حاقنان (محصوران)، وليس عندهما فراطة، الفراطة ثقيلة الوزن، تجعل جيب حاملها يصلصل مثل جرس المرياع في القطيع، وهو ما يعتر منه الكريم.

 لكنَّ الموظف المسلم التقي الورع، الذي يتّقي ربّه في شروى النقير والفتيل ومثقال حبة الخردل أبى، حدَّ الله بينه وبين الحرام، توسل إليه أبو مروان أن يقبل بباقي الليرات العشر هدية أو صدقة للمساكين وأبناء السبيل، لكن المسلم التقي الموظف العنيد رفض، فكل ما أُخذ بسيف الحياء فهو حرام، وسيف الحرام مثل سيف الوقت، والوقت في أيامنا رصاص.

اقترح أبو مروان منفذًا آخر للمحنة، فعنده خمس ليرات، وتنقصه ليرة سيعيدها له غدًا إن رضي بإقراضه الليرة مقابل ثلاث بطاقات، لكن الموظف محدود الدخل والعقل، شديد الدين عفيف الحزم، لم يفرط بليرته الثمينة، فقد ينساها المقترض أو يتناساها.

 علا صوت الصياح والغبار في هذه المعركة المالية، حتى كادت أن تصير بسوسًا صغيرة، ومضى باص، ومضى باصان، والغضب يقصر العمر، واقتربت الساعة، وهو يكاد ينشقّ من الغيظ ومعه الشاهدان المتذمّران من هذه الحبسة، وغامت السماء، فالمدير هو السائق، وهو الخادم، وهو الآذن، ثم وجد أبو مروان حلًّا بأن مدَّ يده للسابلة وتوسل في الطريق، فنال ليرة من أحد المحسنين، فركب الباص أخيرًا مع الشاهدين الغاضبين المتذمرين، النادمين على التطوع للشهادة، وأقسما بالله ألا يشهدا بالحق أو بالباطل مرة أخرى، ثم وقع الفرسان الثلاثة في محنة أخرى، وهي أنَّ السائق التقي الورع الملتحي، استخفّه الطرب فرحًا بالطريق الأسود المعبّد حديثًا، والذي تآكل سريعا في الأطراف من وابل واحد، لكنه لا يزال حديثا، فجعل يتلذذ بالسير الوئيد خوفًا على الطريق من الكسر، أو مطروبًا من الابتهال الديني المبثوث من مسجلة بصوت المنشد الشجيّ من غير موسيقا سوى موسيقا الكلمات وألحان الحروف الندية:

من لي سواك إله الخلق يهديني

وفي طريق الهدى والنور يبقيني

 ثم بلغ السائق بعد نصف ساعة مجمع البحرين حقبا، فترجل عند الحاجز الأول، فجعل يتبادل مع عناصر الحاجر الذين فحصوا وثائق المواطنين، ونادمهم كأحسن ما يكون التنادم حول مائدة الغداء، وتبادلوا النكات الحديثة المتداولة على واتساب، ثم انتقل إلى الحاجز الثاني، ثم الثالث، من غير منادمة سوى التحيات، وهي تحيات طويلة فيها أشواق وتباريح، كانت الشمس قد تزاورت وراء الغيوم خجلًا من أمر ما.

 وجد أبو مروان الموظفين وكتّاب العدل وكتّاب الظلم في مكاتبهم، وهم أيضًا تقاة ورعون. تناول كاتب العدل الوثائق والأوراق لتسجيل التوكيل، ثم توقف، فقد اشتهى كأس زهورات، فاعتذر منهم، وهذا لطف لا نراه في سوريا النظام، وقصد المطبخ، والزهورات ليست مشروبًا مكروهًا في الشريعة، أو غير مستحب، ولا قهوة برازيلية، والقهوة اسم للخمرة قاتلها الله، إن الزهورات مشروب ديني يثاب عليه المسلم لكثرة ما يرى الرائي الدعاة يشربونه في الفضائيات والمساجد، كأنه مشروب يؤدي إلى الجنة، وعاد بالزهورات وفحص الأوراق فرفض شهادة أحد الشاهدين، لأن بطاقته الشخصية صادرة عن عفرين، وتحكمها تركيا الصديقة، ولا يقبل إلا الهوية الصادرة إما عن سوريا الأسد العدوّة، أو عن حكومة إدلب الحرة.

 جادل أبو مروان عن شاهده، فالوثائق الصادرة عن الترك أوثق وأصدق من وثائق حكومة إدلب حديثًا وعهدًا، وبلاد العرب وبلاد سوريا أوطاني، من كرناز لعطشان، لكن كاتب العدل الذي أقسم على الالتزام بالقانون رفض، ثم أكرم الله أبا مروان بفضله، فوجد فدائيًا في المحكمة من غير معارفه، رضي أن يشهد له، فقضي الأمر واستوت سفينة نوح على الجودي، وقيل بعدًا للقوم الظالمين، وكانت الساعة قد بلغت الواحدة ظهرًا، والمطر بدأ يهطل، والمطر خير، والطريق البسكويتي المحروق بدأ يتآكل من أطرافه.

 خرج الفرسان الثلاثة، وهم يتحسرون على أيَّام الأسد، فالموظفون يرتشون بسهولة، وتنقضي الحوائج بسلاسة، ركبوا الباص نفسه الذي جاؤوا به، كان السائق ما يزال مطروبًا، والمنشد يبتهل إلى الله، والمطر يهطل ويلحس الطريق المعبّد حديثًا، كأنه مصنوع من الحلاوة السوداء:

يا من يجود ولا تفنى خزائنه

إني سألتك إحسانا لتعطيني