البحث عن الظلّ في مدن اللجوء الجديدة

2021.11.27 | 05:58 دمشق

3a427546-4f45-4c67-877e-8aec8403efc2.jpg
+A
حجم الخط
-A

لحظة عتاب سورية

في ذاكرة كلّ سوريّ/ـة تجاربٌ طويلة مع المدن المفقودة: دمشق، حلب، حمص، مدنٌ عابرة كذلك: إسطنبول، القاهرة، بيروت ربما! الخطوات وأمواج البحر صديقة ما من صداقتها بدٌّ للسوريّين/ات في السنوات الأخيرة، أصبحتْ تلك الخطوات إشارات ضوئية على طريق قلبك الهارب من ظله، ستركض خلفه، وتمسك به، ستغمض عينيك كي تستريح روحك على كفة الحلم. وحين تفتحهما، إذ بسنوات طويلة من البعد، بينك وبين المدينة القديمة، قد تنتظرك طويلاً، ستصل متأخراً كعادتك، لن تصل ربما، ظلُّها هو الذي انتظرك، ستضيع بين المسافات الطويلة وهضاب الطرق القديمة، وأنت تحاول اختزال المسافة، ستجدُك هي مستعجلاً أكثر مما يجب، ولن تستجيب لمِمحاتك، التي تستعملها كلّ يوم لتحذف اتساع مساحات البعد بينكما، ممحاتُك التي تشغل وقتَك بها، وتدندن بها على إيقاع الندم، الذي فات أوانُه، ستقول وداعاً إلى "لا مدينة"، بلا خطوات أو شطآن، ربما مدينة بلون وطعم واحد، حيث لا نكهة!

ليست أحلامُك، أيُّها السوريّ/ـة، بقادرة على الحبو وحيدة، وقد أضاعتْ طريقَ العودة نحو أقفاصها، وأنت تتساءل: كيف للطيور أن تحفظ أبجدية الخطوات التي تنتظر من يمشي معها؟ حيث الفراغ، وناس كثيرون هناك، ربما لا أحد، سوريّون على الدرب يتهجّون خطواتهم، بعيونٍ أدمنتْ الاحمرار، غارقون في الانتظار، هائمون في صدى الصوت، رافعون نخبَه، تائهون في خرائط التشتت، باحثون عن منقذِين، ولو بصيغة أنبياء، تائهون بين هنا وهناك، يذبلُ الوقتُ بانتظار خطواتهم التي لا تأتي، وتنكمشُ أحلامُهم، أولاً بأول، إلى ظلِّها النحيف!

لا تمشِ وحدك، خذْ ظلك معك، وكمشة من جروح، تستعينُ بها على السكك التي لا يأتي قطارُها، إذ تمشي بجانب المسافة، لكنك لا تصل

لا تمشِ وحدك أيُّها السوريّ، اكتبْ على جبينك بحروف كبيرة: لستُ وحيداً، لا تخبر الآخرين عن اسمك، إنْ تعثرتَ بأمنيةٍ مباغتة لا تخفْ، فالصبية التي تمرُّ مصادفة ستأخذ بيديك، وإنْ وقعتَ في قلب خطوة خائفة، ضلَّتْ طريقها انهضْ، دون أنْ تتّكئ على مقبض ذكرى، تزحلقتْ قبل أنْ يرتدَّ بصرُك إليك. لا تمشِ وحدك، خذْ ظلك معك، وكمشة من جروح، تستعينُ بها على السكك التي لا يأتي قطارُها، إذ تمشي بجانب المسافة، لكنك لا تصل، قد تصل حين يغدو اللقاءُ حاجة فائضة، والمسافة ستقول لك: إنك الآن أبعد وأبعد عن مدينة، طارت نبضاتُ قلبك بها فرحاً، ذات عمر!

دحرج الأيام إلى الأعلى، لعلَّها تجرفُك معها نحو مجرّة لا تعرف الاتجاهات، فالمدن الصامتة "الأوروبية" لا يعنيها الجنوب كثيراً، والمكان لا يمشي  إلى الأمام. جرِّبْ أن تزحلقه إلى لا جهات، تَدرَّبْ كلَّ يوم على تعلم فنون انتظار "مدينة" لا تأتي، واطوِ المسافة بينكما، اجعلها شجرة لا تعرف أوراقُها فصل الخريف، المسافة لا تعترف، تحفرُ عميقاً كل يوم، تحفرُ مزيدا من اللاجدوى!

لا تكنْ مع المدينة الجديدة حبيباً؛ يحاول أن يتآلف مع زمن قادمٍ من قهر الضرورة، جرِّبْ طعمها آناء الليل وأطراف النهار، حاولْ أن تخصَّها بشيء ما، فتشعر أنها لكَ وحدك، زاوية لا يشاركك بها أحد، مدّ جسراً من تواصل، ابنِ معها ذاكرة، بعين سحرية، مثبتة على بابها، يمكن أن نتناساها، أو نهرب منها. ستخبِرُ المدينةُ القديمةُ المدينةَ الجديدةَ "أحياءها" أنكَ كنت تعشقها، تأخذُك يداها من برد الغياب، الذي صار الكتاب المفضل لأرق الروح، وتطلق حكمة قديمة: أقصرُ علاقة حبّ مع المدن هي أدفأ علاقة حبّ، وأوجعها! فخطواتُها المكثفة، المتعثرة تكشف فقر العلاقات البطيئة، المتدثرة بالحكمة والقدر.

كن مع من تحب، في ظلال المدن الجديدة، أمَّاً، وأباً، وابناً مرة، وصديقاً غالباً، لكن ابقَ رجلاً، حين تحينُ لحظة تكره فيها المدينةُ الرجالَ، كل الرجال العابرين، والمقيمين، خذ قسمتك منها في الكره، بعد أن تعذر نصيبك منها في الحب! إنْ شئتَ، أيها السوريُّ، أحببْها بصمت، حتى لو اشتعل الرأس شيباً، ولا تصدقْ أنَّ كلّ الطرق تقصرُ بالخطوات، فكلما أوغلتْ خطواتُها بالغياب يصبح الطريق بينكما أقصر وأقصر.

في الحب: تعلَّمْ من المدينة القديمة، وفي الرحيل: تعلم من المدينة الجديدة، وفي الأحلام: الأفضل  أن تسكن الـ لا مكان! احذر من أن تنكر أنها مرّتْ بالقرب من جدران قلبك، فالنكران يخلِّفُ كدمات في نبضات القلب، والتجاهلُ لغة تحفظ أبجديتَها النساء، والإلحاح لغة يعرف أثرَها الرجال العاشقون. لا تراكمْ جروحاً جديدة في قلبك، مُهَمْهِمَاً: المشيُ وحده طريقي. مدينتك القديمة كانت تغمضُ عيونها عن حكايات المحبين، كي لا ينفجر قلبُها حزناً على النهايات غير الجميلة، وتشعر بالغيرة من "الدردشات الافتراضية" التي سرقت خطوات محبّيها، وباتت شوارعُها تشتاق لخَفر الوجنتيْن حين ينبضُ القلبُ خلسة، فتمدّ الروحُ أشرعة الخيال بعيداً، بعيداً!

لا تبكِ أيّها السوريُّ/ـة في المدن التي لن تمنحك الأمان، فدموعُك ستعرّش زنابق، جذورها في قلبك، وأغصانها سرابُ لقاء، لن يفارق مدى عينيك. حين يألفُ قلبُك مدينة ما عالجه بالفراق، وإنْ أعجبتك سفن بحر "مدينة ما"، اصعد فيها وارحل بعيداً، احذرْ أن تحبّها وهي راسية، فقد يهفو قلبك ليرسو على شطآن تلك المدينة! والقلبُ إذا عشقَ مدينة وجدَ ألف حكاية وسبب ليقيم بها، وإنْ دعاك أصدقاءٌ لتمشي في الشوارع، ربما على شطآنها، احذرْ أن تورطك يداك فتشتبك بأصابع ساكنيْها، إذ ستصبح تلك الأصابع خواتم عودة! ولا تستقبلْ من تحبُّ على شرفات الغرف، كي لا يرتبط طلوع الشمس بمن مضوا مع الريح، بعيداً حيث لا أحد، وبقيتَ مشغولاً برائحة قهوة سوريّة، ونظرات الوداع فجراً!

إن كانت المدينة بَحْريّة اجعل لقاءك الأول معها عند السور القديم، وإن كنتَ لا تحبّ الحجارة القديمة، قل لها: أريد لعلاقتنا أن تدخل التاريخ من أسواره، تعلَّمْ من أحجار السور الإصرار عليها!  ثم امشيا معاً إلى أمواج البحر، وذكِّرْها أنها تشبهُها: عنيفة وحادّة ومتقلّبة، ومجنونة في الغياب! وإنْ كان البحر غلّاباً، فقد تعجبُك قناديل البحر، التي ستصطاد أصحاب "الأبراج المائية"، حاول أن تخفِّف من وقعها برائحة الماء وأضواء السفن.

سيرتُك، أيُّها السوريّ، تلخِّصُ حكاية "المُتَخلَّى عنهم". تفاصيل معظم حياتهم، التخلِّي خيارٌ يرسمه ظلّ الغياب أحياناً، ولا بدّ من شجاعٍ يلمّ التفاصيل

وإيَّاكَ إيَّاك، أن تصدِّق أن هناك مطراً في المدينة الجديدة يشبه مطر مدينتك القديمة دمشق! لا تنسَ: صخب الشوارع اللذيذ، الأمَّ التي تركض لتُحضِر ابنتها من الجامعة، وذاك الرجل الفقير الباحث عن حذاء ضائع، وهناك امرأة تختبئ تحت مظلة، وأطفالٌ سرقوا لحظات من أهلهم، خلسة، ليبلّلوا ثيابهم، وشابٌ يتعثر في البرامكة، فتمسك يديْه صبية من المالكي، وسيارات تتزحلق من نزلة قاسيون نعثر عليها في ساحة العباسيين. كذلك هناك في حديقة عامة عاشقٌ، وجدَ في هطول المطر فرصةً ليحمي حبيبته بجسده المشتاق، في غفلة من قناعاتِهما، وإنْ شعر أنَّ يديْها قد تسربَ البردُ إليهما سيكتبُ لها كلمات تدفئهما، فهو لا يزال، يعتقد جازماً، أنَّ الكلمة وحدها مدخلُ دفْء كلّ قلب، وسكينة كل روح!

سيرتُك، أيُّها السوريّ، تلخِّصُ حكاية "المُتَخلَّى عنهم". تفاصيل معظم حياتهم، التخلِّي خيارٌ يرسمه ظلّ الغياب أحياناً، ولا بدّ من شجاعٍ يلمّ التفاصيل، ويضعُها على شجرة، وسط غابة شاسعة، لا اسمَ لها، بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يجدها ثانية. للمُتَخَلِّيْن، أسبابُهم، وحججُهم التي يمكن أن تكون فصلاً رئيسياً من كتاب: فنون التخلي!

أتذكرُ الشاعرَ الذي قال: إنّ حظّي كدقيق ٍفوقَ شوكٍ نثروهُ/ ثمّ قالوا لحُفاةٍ يومَ ريح ٍ اجمعوهُ؟ هذا يلخص صفحات من وجعك في مدنك القديمة والجديدة. صفحات من عنادك، يا من تشكلتَ من صمت وصبر وصدى وصوت، وأنت تسعى لتنتشل العالم من غياهب جبّ اللامبالاة، إذ تتفيَّأ البشريةُ من خزيها بظلك، وقد أصبح اسمك في المدن الشاسعة: سيزيف السوري العنيد!

أيُّها السوريُّ/ـة، في لحظة ضعف، لا تضغط على محتويات ذكرياتك، ولا تنقلها إلى سلة المهملات، أو تحذفها بضغطة زرٍّ واحدة، كي لا ينكسر ظهرُ القلب، فلا بدّ أن تباشر الحياة من جديد في المدن الغريبة، قبل أن تدهمَك النهايات، ويلتهمَك الغياب/ غيابها!

كلمات مفتاحية