البافلوفية الثورية

2019.12.24 | 12:56 دمشق

tramb.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرة جديدة نتوقف عند تجربة العالم بافلوف التي نفذّها مع كلب، حيث كان يرن جرساً كلما قدّم الطعام للكلب فيسيل لعاب الحيوان، ومن ثم، صار يرن بالجرس دون طعام، وكانت ردة فعل الكلب مع ذلك أن يسيل لعابه.

وفي السياسة، صار من المعتاد أن تطبق هذه النظرية البافلوفية على مواقف كثير من القوميين واليساريين العرب تجاه الثورات العربية التي وجدوا فيها تأثيراً غربياً وبما أن الغرب هو عدو تاريخي ويُخفي مطامع إمبريالية في قاموسهم المتحجر، فالثورات تابعة للإمبريالية ولها أهداف سلبية تجاه "الأمة (؟؟)" العربية وتجاه "منجزاتها (؟؟)". ومن أفصح التعبيرات وأكثرها مبعثاً على السخرية والتي صدرت عن هذا العقل البافلوفي هو ما كتبه يوما صحفي جزائري مقيم في فرنسا بأن جميع الثورات والحركات الاحتجاجية في الدول العربية تم الإعداد لها في مطابخ الصهيونية العالمية وبأن مهندسها ما هو إلا المهرج الفرنسي برنار هنري ليفي.

من جهة أخرى، فكثير من الثوريين ومن في حكمهم، يعتنقون النظرية البافلوفية ذاتها ولكن في تطبيقات مختلفة. فتراهم كثيراً ما يربطون بين الأنظمة التي يعادونها عن حق و"العدو الصهيوني" ويرون في المشهد تحالفاً غيبياً بين طغاتهم وبين سادة تل أبيب، إن لم يصلوا في الاستنتاج إلى استرجاع أساطير "حكماء صهيون" التي ألفتها مخابرات القصير الروسي في كرملين ما قبل القيصر البوتيني الحالي. وإن كانت مصالح العدو الإسرائيلي متقاطعة غالباً مع مستبدي العرب، وأن في بقاء الشعوب العربية تحت سيف الإقطاع السياسي والحكومات الفاسدة المستبدة مصلحة حتمية لإسرائيل، إلا أنه لا علاقة عضوية أو وظيفية تذكر بين وصول هؤلاء الطغاة إلى السلطة وبين مسارات السياسة الإسرائيلية. ولا يمكن الظن بأن إسرائيل ستنزعج إن ساءت أمور العرب، وهي ستفرح بالتأكيد حين يُشتت الحديث عنها، واتهامها بأنها وراء كل مصائب المنطقة، أية رغبة بنيوية وديناميكية حقيقية لتغيير الأوضاع المهترئة لمختلف المجتمعات والحكومات التي تحيط بها.

حضر بافلوف حضوراً قوياً في التحليل والفهم السياسي لما قام به الرئيس الأميركي دونالد ترمب من توقيع على قانون يتضمن عقوبات على النظام السوري فيما يعرف بقانون سيزر

البافلوفية إذاً ليست حكراً على الموالين للطغاة و/ أو المستفيدين منهم، وهم ممن يبحثون دائماً عن شمّاعة الإمبريالية والعدو الصهيوني المتربّص بأمتنا (...) والطامع بثرواتنا (...)، ليفسروا من خلالها تحالفهم مع القتلة أو موت ضمائرهم أو بيعها أو تأجيرها بأبخس الأثمان للطغاة وزبانيتهم، بل هي، أي البافلوفية، تصيب أيضاً من يتبنّى مقارعة الاستبداد عن قناعة متجذّرة أو عن مصلحة ذاتية و/ أو آنية. ولقد حضر بافلوف حضوراً قوياً في التحليل والفهم السياسي لما قام به الرئيس الأميركي دونالد ترمب من توقيع على قانون يتضمن عقوبات على النظام السوري فيما يعرف بقانون سيزر الذي كشف بعد هروبه عن فظائع التعذيب في سوريا. وقد فرح كثيرون منهم، في زمن عزّ فيه الفرح وغاب وكاد أن يندثر، وهللوا للقانون وباركوا من عمل على إصداره حقيقةً أو ادعاءً.  وإن توقف الأمر عند هذا التعبير البريء لشعب مكلوم تكسرت نصال الخيانات والخيبات على جسده الممزق، لكان من الممكن إيجاد الأعذار لمتبنيها. ولكن الأمر تعدى هذا لتصدر المطولات بمدائح لا معنى لها لإدارة ترمب وتمييزها عن إدارة ما سمته بعض الألسن السياسية الواعية بـ "المسخ" أوباما الذي لم "يُسقط النظام السوري بعد الضربات الكيماوية سنة 2013". 

وبعيداً عن كتابات العشرات من المحللين السياسيين الأميركيين من ديمقراطيين ومن جمهوريين عن أن سياسة ترمب فيما يتعلق بالملف السوري لم تختلف البتة عن سابقه وبأنها تعتمد أساساً على مبدأ فك الارتباط، وبعيداً عن دخول أميركا في المرحلة الانتخابية التي تمنع الإدارة من اتخاذ أي خطوة ملموسة خارجياً وكل همها ينصبّ على الداخل، وبعيداً عن المعلومات التي تتحدث عن دور روسي صريح في تغليب كفة ترمب أمام كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبعيداً عن مواقف ترمب الهوجاء واليمينية المتطرفة فيما يخص المسائل المناخية، والأقليات العرقية، والهجرة، والقضية الفلسطينية، وبعيدا عن ليبراليته المتوحشة التي لا تعترف بحقوق اجتماعية لمُنهكي الدخل وتكاد تترحم على زمن العبودية، وبعيداً عن تحالفه المعلن والمستتر مع جميع رموز التطرف الفاشي في أوروبا الغربية مثل سالفيني الإيطالي، وفي أميركا اللاتينية مثل بولسوناروا البرازيلي، وفي الشرق الأوسط مثل نتنياهو الإسرائيلي، نجد بعض المحتفلين بالقرار، الذي ربما كان إيجابيا في حدود معينة، محتفلين بالإدارة الجمهورية ومطبلين لترمب "الحكيم" وشاتمين لسلفه، ومعممين إعجابهم بمختلف خطواته السورية منذ وصوله إلى البيت الأبيض وأمره بقصف مطار الشعيرات، الذي تم تنسيقه مع الروس، وأدى إلى تدمير هياكل طائرات صدئة متروكة منذ حرب 1967.

ما سبق ليس انتقاصاً من إيجابيات قانون سيزر النظرية، والتي ستدفع من يلعب فأر التطبيع مع الاستبداد في داخله إلى إعادة حساباته ربما. بالمقابل، المبادئ لا تتجزأ، ولا يمكن لإدارة يرأسها ترمب أن تدفع من خرجوا من أجل الحرية والكرامة إلى التخلي عن القيم في حدودها الدنيا بناء على نصٍّ لا يعرف إلا الله إمكانية دخول محتواه إلى حيّز التنفيذ الفعلي. ولا ننسى بأن الحاج أمين الحسيني عندما زار هتلر، كانت نيته "وطنية".