الانقسام بين النخبة والمجتمع

2021.07.08 | 06:33 دمشق

d984d8a7d981d8aad8a7d8aa2.jpg
+A
حجم الخط
-A

يعيب الكثيرون دائماً، وبمن فيهم أنا في بعض الأحيان، على البعض من النخبة السورية المتعلمة أو المثقفة، استقالتها من المشهد العام وابتعادها عن الخوض في الحياة السياسية المعارضة أو في العمل الميداني إلى جانب الجماعة البشرية التي اختارت الثورة على الاستبداد والسعي إلى تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي في البلاد والتحول من رعايا إلى مواطنين. ويتركز الانتقاد الموجه إلى هذه الفئة من المجتمع السوري، على غيابها الجزئي أو الكلي في مرحلة البدايات، أي في عامي 2011 ـ 2012، عن الفعل السياسي والتأطير اللازم والذي كان البعض ينتظره من أصحاب "العقول" للعامة المتحمسة. وذلك طبعاً قبل أن يتحوّل المسار السلمي للحركات الاحتجاجية، بسبب فاعلية القمع المنهجي والعنف المنظم اللذين تبنتهما أجهزة السلطة، نحو المقتلة التي لا نهاية واضحة لنفقها المظلم حتى يومنا هذا.

وعلى الرغم من أن القطيعة بين الإنتلجنسيا السورية والشارع هي ظاهرة قديمة ومركبة ومعقدة التفكيك لمحاولة فهم جميع أسبابها والسعي لتصوّر طرق الخروج من عنق زجاجة هذا الابتعاد، إلا أنه يمكن إيراد البعض من هذه الأسباب، وليس الكل، سعياً لبدء محاولة الفهم دون ادعاء امتلاك كامل الجواب.

تعتبر ثقافة الخوف هي اللبنة الأولى والأساسية في "صرح" الابتعاد الفردي أو الجماعي لعموم الرعايا ومن في حكمهم عن المشهد العام والعمل المدني والاهتمام السياسي والمسؤولية الاجتماعية. إضافة إلى عمل حثيث قامت به المؤسسة التربوية والتعليمية السورية لتحييد العقل واغتيال الفكر النقدي واغتصاب الحس المنطقي منذ نعومة الأظافر بالتجنيد الطلائعي البعثي مروراً بثورنة الشباب عبر اتحاد أمني يعتمد نشر ثقافة النميمة والتشهير والتجسس وكتابة التقارير، ووصولاً إلى اتحاد لا وطني لطلاب اختاروا أو اختير لهم أن يتنافسوا في إظهار الولاء وإبداء النية الصادقة لخدمة نظام الأمنوقراطية الذي يهيمن على حركاتهم وسكناتهم.

تعتبر ثقافة الخوف هي اللبنة الأولى والأساسية في "صرح" الابتعاد الفردي أو الجماعي لعموم الرعايا ومن في حكمهم عن المشهد العام والعمل المدني والاهتمام السياسي والمسؤولية الاجتماعية

تتوسّع ثقافة الخوف وتتمدّد مع الدخول في المعترك المهني حسب الاختصاص. فالاتحادات المهنية والنقابات على أشكالها صارت مجالاً هاماً لترسيخ البنية الأمنية للمجتمع بحيث تحوّلت إلى مزيج من البيروقراطية الأمنية وأدوات خدمة للدولة بمنأى عن خدمات وحمايات منتظر منها نظرياً أن تقدمها لمنتسبيها. فساهمت إذاً في تعزيز تأطير المجتمع السوري بحيث يستمر في ابتعاده عن الانخراط في الشأن العام ويلتفت إلى المحافظة على لقمة العيش أو الحماية من الاعتقال أو الحصول على عطايا ومنح ووظائف أو التغطية على فساد ممنهج تصعد شبكته بمنحنيات قاسية باتجاه القمة من الأسفل مكاناً وخُلقاً.

ولعبت المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية دورها المطلوب أمنياً في تدجين مجتمعاتها وتوجيه بعضها إلى التطرف والظلامية الذي اعتبرت السلطة الأمنوقراطية أن نموهما وتمددهما يصب في صالح استقرارها واستدامتها محلياً وإقليمياً ودولياً. ولقد أثبتت وقائع الأعوام الأخيرة نجاعة هذا المخطط الشيطاني. وفي هذا الإطار، جرى التعتيم على التنوير ومحاربته بأشكاله كافة وبناء جسم ديني رسمي يأتمر مدبرو شؤونه بأوامر أصغر صف ضابط في أي جهاز أمني لا على التعيين. وانتشرت معاهد تحفيظ الولاء والخنوع وعدم مواجهة ولي الأمر الجالس على الصدور بالاستناد إلى النص المقدّس. من جهة أخرى، تم توجيه بعض المكونات ذات الكثافة الرقمية الضعيفة في المشهد السوري والتي اصطلح على تسميتها بـ "الأقليات"، نحو الخوف والريبة من الآخر لتتحوّل إلى وقود سريع الاشتعال يُساعد السلطة في التحكّم عن بعد وتطبيق القاعدة الاستعمارية التي تعتمد على التفريق بين المكونات للسيادة عليها والتحكم بمصائرها.

لعبت المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية دورها المطلوب أمنياً في تدجين مجتمعاتها وتوجيه بعضها إلى التطرف والظلامية الذي اعتبرت السلطة الأمنوقراطية أن نموهما وتمددهما يصب في صالح استقرارها واستدامتها محلياً وإقليمياً ودولياً

وعلى الطرف المقابل، اختار بعض من النخبة النأي بالذات عن المشهد والاكتفاء إما بلعب دور المثقف التقني أو الإداري، وإما بالتنظير الذي يعتمد العلم ركيزة لا يملك العموم مفاتيح خزائن أفكارها وتحليلاتها المختلفة والمعقدة أحياناً. فصارت المقاهي ملاجئهم وحرموا من منابر الثقافة التقليدية أو المستحدثة والتي تحوّلت إلى عروض استعادية للتراث مهما كان مشوهاً، أو تقديم متفوهي السلطة شعراً ورواية وفنون.

واستطاعت السلطة تحييد جزء كبير من الإنتلجنسيا وذلك إما عبر الاستقطاب الوظيفي والمنفعي أو عبر الترهيب الذي يُحيل إلى الصمت أو الهجرة، وإما عبر القمع المباشر والذي يُحيل إلى الاعتقال أو الموت تعذيباً أو قهراً.

السنوات العشر التي مرّت على البلاد منذ اندلاع انتفاضتها أتاحت تقارباً، حذراً أحياناً، بين الطرفين. وقد سمح ذلك بنقل المعرفة أو بتأطير التحليل أو بترشيد الحماس أو كلها مجتمعة. وقد تم ذلك من خلال الكتابات المنفلتة من قيود الحصر والتضييق، وهذا ما سمحت به شروط الهجرة واللجوء أو العمل السري المنظم. أو من خلال التواصل المباشر عبر الندوات والتدريبات أو من خلال تقاسم هموم وتفاصيل التغريبة السورية بجميع مآسيها. فالمأساة المشتركة ساهمت في تقليص الفجوة المعرفية والموقفية.

وصل التجسير بين الطرفين إلى مرحلة تشجع فيها الطرف المجتمعي الأوسع على محاولة "قتل الأب" المتمثل بالمرجعية الثقافية أو الفكرية بحيث تمرّدت بعض الأصوات على ما اعتبرته تعالياً لدى هذه الإنتلجنسيا مشيرة إلى معارف حديثة تمكنت منها هي وتراجع في الخوض فيها الطرف الآخر. فليكن.