الانتفاضة كرد على تحلل الدولة الوطنية العربية و"صفقة القرن"

2020.01.22 | 23:03 دمشق

baltfasyl-walasma-.-twz-mwaq-ayran-w-mylyshya-hzb-allh-fy-aljnwb-alswry.jpg
+A
حجم الخط
-A

يعيش العالم في شكله الذي تكون ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إحدى مراحل تغيّره الكلّي. نحن في منطقة الشرق الأوسط، نتعايش منذ سنوات وتحديداً بعد أحداث 11 أيلول مع شعار "الشرق الأوسط الجديد". سالت دماء كثيرة، وأذيبت خرائط، على طريق رسم معالم هذا النظام الجديد. وهو الذي يُختصر بأنه عصر تحلل الدولة الوطنية، لصالح دويلات مشتتة. في مثال مبسّط على ذلك، فإذا ما كان الركون إلى معادلة "سايكس بيكو" التي قسّمت المنطقة قبل أكثر من 100 سنة، فما تعيشه المنطقة حالياً، هو تقسيم ضمن التقسيم، مترابط مع نوازع انفصالية عنصرية ومذهبية وطائفية، ليست محصورة في هذه المنطقة، إنما تتعمم دولياً، في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

في الحرب العالمية الأولى، سقط مفهوم الدول الإمبراطورية لصالح الدول القومية، تعززت في حينها القومية العربية، التركية، الفارسية، اليهودية، الكردية، وغيرها، فيما كان الغرب يعيش فصولاً جديدة من الدول الوطنية. القومية العربية التي تشتت في مطامع مصغّرة، بين مصر، سوريا، العراق من جهة، ودول الخليج من جهة أخرى، نتج عنها تأسيس هذه الكيانات التي نظر إليها العرب في حينها تقسيماً داخل بناهم الوطنية. فبدأ عصر الانقلابات العسكرية، بعنوان قومي عربي جامع. عندها أيقن الغرب أنه لا يمكن الوقوف بوجه هذا المدّ، فدخلوه راكبين موجته. أسس ذلك إلى دول "قومية عسكرية" انعدمت فيها الحياة السياسية، وتحول الصراع في حقيقته العميقة، من قومي إلى عسكري من جهة، وجماعات إسلامية من جهة ثانية.

استمر تحلل مفهوم هذه الدول الوطنية، إلى ما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. التي أنتجت ما يماثلها من تطرف سنّي في المقابل، لا زالت تدفع المنطقة العربية ثمنه الأكبر. كانت الثورة الإسلامية الإيرانية الخط البياني الأول للخروج على الدول الوطنية، انطلاقاً من نظرية تصدير الثورة، ونصرة المستضعفين في الأرض. حتى داخل إيران جرى إعلاء الصوت الإسلامي الشيعي على الصوت القومي، وهذا ما جدد علي الخامنئي

نموذج الحرس الثوري عممته إيران في أكثر الدول، كإحلال جيوش رديفة موازية للجيوش الرسمية، كحزب الله في لبنان، الذي وصل إلى قدرة تفوق قدرات الجيش اللبناني

تأكيده في خطبته يوم الجمعة الفائت في طهران، عندما أكد أن الحرص الثوري سيكون موجوداً حيث وجود المستضعفين الذين يحتاجون إلى الدعم. هذا الحرس الثوري الإيراني هو التأكيد الأولي على الخروج من منطق الدولة الوطنية، من خلال تعزيز أذرع رديفة للقوى المؤسساتية، فحلّ الحرس الثوري مكان الجيش الوطني.

نموذج الحرس الثوري عممته إيران في أكثر الدول، كإحلال جيوش رديفة موازية للجيوش الرسمية، كحزب الله في لبنان، الذي وصل إلى قدرة تفوق قدرات الجيش اللبناني، والحشد الشعبي في العراق الذي احتل مكان الجيش العراقي، وتشكيل ميليشيات الدفاع الوطني في سوريا لتحلّ محلّ الجيش السوري. هذا التحلل في المؤسسات هو نتاج لهذه الفكرة التي ترتكز على مبدأ تصدير الثورة، وهدفها إسقاط الدول وتفريغ بناها، بشعارات طائفية أو مذهبية، لا تدفع في سبيل تقويتها، إنما الغاية تهديدها وشرذمتها، بجعلها دولاً فاشلة، لا شيء فيها غير الانقسام المذهبي والطائفي والمناطقي.

 لم يقتصر إسقاط الكيانات الدولتية، على تشكيل الكيانات العسكرية الموازية، إنما هذا النموذج أخد في الاتساع ليشمل قطاعات أخرى، مواردية، وتعليمية. وهذا أبرز ما يعيشه لبنان، سوريا والعراق، حيث انهارت في هذه الدول كل القطاعات المؤسساتية ومركزيتها الدولة. فقدان لبنان للكهرباء وعدم معالجة هذه المشكلة ليس تفصيلاً، ولا يتعلق فقط في أسباب النهب والسرقة والفائدة الشخصية لمن يسيطر على هذا الملف، هو جزء آخر أكثر تطوراً من تحلل الدول الوطنية، عبر تشكيل قطاع إنتاج كهربائي موازي، يتكون على أسس مناطقية ومذهبية، لكل منطقة حصتها التي توفرها الجهات النافذة في هذه المنطقة. ولذلك يتعزز باطراد مفهوم "المولدات الكهربائية الخاصة"، الأمر نفسه مشابه في العراق وسوريا ستكون مقبلة عليه.

ما ينطبق على الكهرباء، ينطبق على القطاع التعليمي، وغيره من القطاعات الإنتاجية، التي تكرس منطق التقزيم والتقسيم داخل الدول الوطنية، لصالح تشكيل فدراليات واقعية، وإن لم تكن رسمية. وتحلل هذه الدول حتماً ليس هدفاً إيرانياً محصوراً، إنما يتلاقى

العنوان الذي يختصر العصر الجديد هو صفقة القرن، والتي تأتي نتيجة لتحلل الدول العربية وغياب أي مشروع عربي جامع، قادر على حماية نفسه

مع الصراع الذي تفرضه الولايات المتحدة الأميركية في هذه المنطقة، لإرساء نموذج جديد للنظام العالمي، في مرحلة ما بعد سقوط نهاية التاريخ، وبحثها عن آفاق التشارك مع روسيا والصين. إيران هنا تأتي كنتيجة لهذا النموذج، لتكريس تحلل الدول، والدخول في قرن جديد ومتحول عن صراعات القرن المنصرم التي نتجت عن الحرب العالمية الأولى.

العنوان الذي يختصر العصر الجديد هو صفقة القرن، والتي تأتي نتيجة لتحلل الدول العربية وغياب أي مشروع عربي جامع، قادر على حماية نفسه، فقدت بنتيجة الصراع المديد الدول العربية أوراق قوتها، فيما راكمت إيران تقدّمها الذي يتغذى على الصراع السني الشيعي، فأصبحت تسيطر على كيانات متعددة ولكنها "مشلّعة"، وهذا ما فرضها شريكة رئيسية في إنجاز صفقة القرن، بحيث ستكون بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن هناك أي إمكانية لإنجاز صفقة القرن بدون تدمير سوريا ولبنان والعراق وإغراقهم في الشرذمة المذهبية والطائفية والمناطقية. تتظاهر واشنطن في دعم الثورات العربية، لكنها في المقابل تمرر الفرص لطهران للانقضاض عليها كما حصل في سوريا، ويحصل حالياً في لبنان والعراق، ولا تترك واشنطن فرصة إلا وتسدي الخدمات لطهران، لتمكينها من الالتفاف على الانتفاضات الشعبية المطالبة بإعادة تكريس الدولة الوطنية، وهنا تكمن أهمية حراك الشباب العربي في إعادة بناء مشروع جامع يتخطى حسابات الأنظمة ومصالحها، لمنع الانزلاق إلى ما يُرسم له تارة بالدماء والقمع، وطوراً بتخريب العقول مذهبياً وطائفياً ومناطقياً.