الانتفاضة اللبنانية.. لا مهرب من مواجهة حزب الله

2019.10.26 | 17:19 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

تفوق اللبنانيون على أنفسهم، وتفاجأوا بما يمكنهم أن يصيروا عليه. ما كان غير مفكر فيه وغير متصور في مخيلتهم، تحقق في لحظة سحرية. وهذا هو تعريف الثورة: مباغتة تاريخية.

كانت الملحمة السورية هي الأقرب إلى انفعالات اللبنانيين، وقد أبصروا فيها استعصاء دموياً وتدميرياً، رسخ في وعيهم ما كانوا قد اختبروه في 2008 في مواجهة حزب الله، أي عدم تورعه عن إشعال حرب على اللبنانيين وسحقهم بكل سهولة، وهو الطرف الوحيد الذي يملك السلاح.

وكان راسخاً في نفوسنا أن "انتفاضة الاستقلال" (أو "ثورة الأرز") عام 2005 والتي سبقت الربيع العربي بست سنوات، ورغم أنها أنجزت رفع وصاية النظام السوري، هُزمت بالإرهاب والعنف والانقسام الطائفي الذي تفاقم على وقع الحروب المذهبية في المنطقة. وعليه، بات من الصعب تجاوز "التسوية" أو تعبئة الجمهور في أي مشروع سياسي معارض.

في العام 2011، حاولت مجموعات شبابية وطلابية تنظيم بعض التجمعات والاعتصامات والمسيرات تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". بدا مشهدهم غير متناسق بتاتاً مع قناعات اللبنانيين، الذين نظروا إلى هذه المحاولات بوصفها مراهقة سياسية متأثرة بالميادين العربية ولا علاقة لها بالواقع اللبناني.

في العام 2015، حدثت حركة "مطلبية" واحتجاجية تقصدت أن لا تقرب السياسة لا من قريب ولا من بعيد. كانت حراكاً ضد فشل الحكومة في حل أزمة النفايات. لكن عندما تكشفت العلاقة القذرة بين السياسة والنفايات، انقلبت أيضاً إلى معضلة "طائفية"- مناطقية. هكذا اصطدم الحراك رغماً عنه بالسياسة فتشظى نتفاً لشدة هشاشته. وتحولت حراكات 2015 إلى نكتة عن "ثورة NGO" (منظمات غير حكومية). وهذا ما أعاد تأكيد قناعة اللبنانيين بلا جدوى الاعتراض.

الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2018، كرست على نحو "ديموقراطي" الانقسامات الطائفية العميقة وأحقادها، وثبتت الطبقة السياسية الحاكمة شرعياً، كما أكدت بالإرادة الشعبية غلبة حزب الله وحلفائه وإمساكه بالسلطة وتحكمه بالدولة وفق "تسوية" تؤمّن حكومة ائتلافية بين الغالبين والمغلوبين. وهي تسوية أمنت لحزب الله أن لا سياسة خارجه.

كان هناك "طمأنينة" لدى النظام اللبناني – "الحزبلاهي"، أن ثورات العالم العربي بموجتيها: مصر، ليبيا، تونس، اليمن، البحرين، سوريا.. ثم الجزائر والسودان، إنما هي مندلعة ضد طغاة وديكتاتوريين وأنظمة استبدادية. وهذا ما لا ينطبق على لبنان. ثم إن أطياف الحرب الأهلية التي لا تغادر ذاكرة الناس، تردعهم عن التوغل في الاعتراض أو المواجهة.

قايض حزب الله اللبنانيين جميعهم قبوله بحرياتهم الاجتماعية بل وبحرياتهم الشخصية ممتنعاً عن فرض إيديولوجيته مقابل تسليمه السياسة والقرار الوطني

قايض حزب الله اللبنانيين جميعهم قبوله بحرياتهم الاجتماعية بل وبحرياتهم الشخصية، ممتنعاً عن فرض إيديولوجيته، مقابل تسليمه السياسة والقرار الوطني، بوصفه "المقاومة" صاحبة إنجاز تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. إنجاز لا يقل ثمنه عن امتلاك المصير وعن تحديد "الهوية" السياسية للبلد. وبمعنى آخر، تسليم لبنان لإرادة محور الممانعة، وتنصيب حسن نصرالله مرشداً أعلى للجمهورية.

العطب الأساسي في هذه المعادلة أن خيارات حزب الله السياسية وانخراطه في حروب المنطقة وتحوله إلى رأس حربة في المشروع الإيراني للمنطقة، حتمت ابتعاد لبنان عن مصدر الأوكسيجين لاقتصاده. جرّ الحزب البلاد إلى خانة "الدولة المارقة". ولأن لبنان يعتنق الاقتصاد الحرّ الرأسمالي، ويعتمد على نظام مصرفي معولم، بل ويعيش على قوة الصلة بالعالم العربي ودول الخليج خصوصاً، والصلة بالغرب والنظام المالي الدولي.

إذا أضفنا إلى هذا المأزق الارتفاع القياسي لمستويات الفساد عند الطبقة السياسية، والفشل التام في برامج التنمية وفي تأمين الخدمات من كهرباء وماء ورعاية صحية ومعالجة النفايات وحماية البيئة (كارثة الحرائق وفضيحة عجز الدولة عن مكافحتها قبل أسبوع من اندلاع الاحتجاجات).. عدا عن الغلاء والبطالة وتزعزع الثقة بالعملة وتردي أحوال الإدارة وتفاقم الدين العام، واستسهال الحكومة بفرض الضرائب الباهظة.. تكفلت كل هذه الظروف في الانفجار المباغت.

لقد وجد اللبنانيون عبر ما هو مسموح لهم، أي الاحتجاج المطلبي أو الاعتراض على الفساد، منفذاً لتطوير خطاب الانتفاضة. أما المعجزة التي نتمنى دوامها، فهي اندفاع اللبنانيين اضطراراً - وبسبب طبيعة المأزق الذي وصلوا إليه - للخروج على وعن طوائفهم. لقد سُلبوا حق تقرير مصيرهم السياسي، ثم سُلبت منهم شروط الحياة الكريمة، وفقدوا دولة تحترم تطلعاتهم.

من الطبيعة المطلبية لاحتجاجهم إلى الاعتراض السياسي الشامل، حدث التحول من "حراك" مدني إلى "انتفاضة" شعبية. وأول من أدرك ذلك هو حزب الله. عرف أن هذه الانتفاضة بشعار "إسقاط النظام" إنما تعني قطع رأسه.

اليوم يواجه اللبنانيون الحقيقة المخيفة: الطبقة السياسة ونخبها وأحزابها وزعماؤها بحكم السقوط. أما النظام فهو هناك بكل صلابته وعنجهيته وقوته العارية. هو "الجهاز" المترع بالطاقة العنفية وبالاستعداد لاقتراف واسع وشامل على غرار ما اقترفه في سوريا وما يرتكبه حلفاؤه في شوارع العراق وساحاته.

منذ ليل الخميس الماضي، بدأت "الثورة المضادة" التي يقودها حزب الله، مستخدماً الترهيب والاعتداءات المتفرقة والدعاية المضادة، ويلجأ إلى تعبئة الموالين له. وهو يضغط بشراسة على بعض الأجهزة الأمنية كي تنفذ أوامره: عزل المتظاهرين وحصرهم في بعض الأمكنة وفتح الطرقات، بما يمنع "العصيان المدني" ويكسر الإضراب العام. وتحويل الاعتصامات إلى حالة عبثية لا معنى لها. وهو لوّح للجيش وللقوى الأمنية وللمواطنين، أنه في حال فشل هذه الخطة، فسيتولى حزب الله بجحافله قمع وتشتيت التظاهرات والاعتصامات وفتح الطرق.. ولو بالدم.

اليومان المقبلان حاسمان.