الانتفاضة اللبنانية صوت واحد لملايين الوجوه

2019.11.02 | 18:01 دمشق

مظاهرات لبنان
+A
حجم الخط
-A

ليس فقط حسن نصرالله وحده المصاب بالحيرة والإعياء في تعيين الأشخاص أو المجموعات أو الهيئات التي تقود الانتفاضة اللبنانية منذ 17 من تشرين الأول الماضي. فأجهزة السلطة وأحزابها لا تعرف حتى اليوم من تواجه، رغم محاولاتها في نصب فخ على شاكلة "دعوة ممثلين للحراك لفتح حوار". وهي دعوات كررها نصرالله والرئيس ميشال عون، المقصود منها دفع كتل المنتفضين إلى التصارع على حيازة تمثيل الانتفاضة والدخول في منازعات سياسية فيما بينهم وشق صفوفهم وزرع بذرة الطمع بالتبؤ والتصدر. كذلك، كان المقصود منها كشف اللثام عن أسماء المحرّكين والناشطين، بما يسهل استهدافهم وشن حملات عليهم ومحاصرتهم، فإذا ظهر مثلاً اسم ناشط بيئي، سهل على النظام التشكيك في ماضيه الشخصي أو تشويه سيرته

والحال أن اللبنانيين المنتفضين يجمعون على رفض تسليم أنفسهم لهيئة أو حزب أو شخص أو تنظيم. إنهم هكذا سويأ شعب في "عامية" مفتوحة على ممارسة ديموقراطية

أو اتهامه بتمويل أجنبي أو تلويث سمعته بفضيحة أخلاقية مفبركة أو مضخمة.. إلخ، على نحو يهفت صلاحيته في التمثيل السياسي، بما يتيح للسلطة طرح سؤالها الخبيث على شعب المنتفضين: أهذا ما تريدونه بديلاً عنّا؟

الإعلام اللبناني، على تنوعه وكثرة منابره واختلاف أهوائه، اشتغل بهوس من أجل العثور والكشف عن قيادة الانتفاضة وتحديدها. ولم يستطع حتى إنجاز رسم تشبيهي لوجه هؤلاء. بقيت الانتفاضة ممتنعة عن أي تأطير أو تسمية أو التوحد في جسم له أطراف وجذع ورأس..

والحال أن اللبنانيين المنتفضين يجمعون على رفض تسليم أنفسهم لهيئة أو حزب أو شخص أو تنظيم. إنهم هكذا سويا شعب في "عامية" مفتوحة على ممارسة ديموقراطية، قوامها حق الجميع بالمبادرة أو بطرح فكرة أو اقتراح نشاط أو فعل، وللشعب حق الاستجابة أو التمنع، فيجوز لمواطن أن يقتحم مصرفاً مزوداً بكاميرا فيديو فاضحاً تدبيراً مالياً غير شرعي تفرضه المصارف على المواطنين، وسرعان ما ينضم إليه كل زبائن المصرف وينتشر الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويتحول خبراً في التلفزيون بما يحفز آخرين على فعل مماثل. كما يجوز أن يدعو تجمع يتشكل من أصدقاء ينتمون إلى وسط اجتماعي واحد (أطباء، محامين، أساتذة جامعيين..) إلى مسيرة أو تظاهرة، فيلبيها الزملاء والطلاب والمواطنون.

عدا كل هذا، كوّنت الانتفاضة استعداداً سياسياً لدى أكثرية اللبنانيين للانضواء فيها والانحياز لها ولمبادراتها اللامركزية. فيجوز لكل بلدة أن تسهم في العمل الثوري وفق الإيقاع والأسلوب المناسبين لها، فلا تنتظر ما سيحدث في بيروت أو طرابلس أو صور أو زحلة.. وهذا أضفى مرونة فائقة في طبيعة الانتفاضة التي تحتدم أو تهدأ بما يناسب شوارعها وحياة المواطنين اللبنانيين ومصالحهم وأشغالهم.

وأسهمت هذه المرونة واللامركزية وديموقراطية المبادرات في توطيد الغموض البنّاء في تعيين قيادة الانتفاضة. وإذ أصرت السلطة (ومعها حزب الله) في الأيام الأولى على إنكار "عمومية" الانتفاضة، ونفي وصفها بثورة شعبية، وتعاملت معها بعقلية مؤامراتية، راحت تتهم مثلاً حزب القوات اللبنانية أو الحزب التقدمي الاشتراكي بالوقوف وراء تحويل احتجاجات شعبية، عفوية وعابرة تحدث بين الحين والآخر.. إلى تمرد ممنهج يراد منه الانقلاب على السلطة القائمة عبر تحريض وتعبئة جمهورهما. وكانت السلطة إذ تتمنى وترغب بصحة هذه النظرية المؤامرتية، تسعى إلى انفضاض الجمهور من غير أتباع هذين الحزبين، بما يسهل العزل والتطويع ونزع الطابع العمومي عن الاحتجاجات، وبما يدفع شطر واسع من المتظاهرين والمعتصمين إلى الانكفاء والانزواء. وكذلك، كان حزب الله يمني نفسه أن تصح هذه التهمة، كونها تتيح له القول أن هذه الاحتجاجات مدبّرة لأهداف سياسية أولها "نزع سلاح المقاومة"، وهي تهمة باتت تقارب الخيانة الوطنية والعمالة لإسرائيل وأميركا. ودأب حزب الله على إلقاء هذه الشبهات بسبب الصدمة القوية التي تلقاها، حين شاهد كيف أن جمهوراً شيعياً في "بيئته الحاضنة" تشارك بفعالية في الانتفاضة، في معظم البلدات والمدن الشيعية الرئيسية: بعلبك، الهرمل، النبطية، صور، بنت جبيل.. بل أن آلاف الشبان من الضاحية الجنوبية من أكثر الأحياء فقراً فيها كانوا ينسلّون من عرين الحزب إلى ساحات بيروت.

فشل السلطة وحزب الله في كل ما حاولاه، بات له اسم في الانتفاضة: "السحسوح" (أي الصفعة على قفا الرقبة). وشيطنة الانتفاضة أو على الأقل محاولات تصديعها تستمر الآن، في سياسة يعتمدها أعداؤها: تقسيمها بين احتجاجات شعبية

حزب الله إذ ورّط شبيحته (وشبيحة حركة أمل الشيعية) بصدامات عنيفة ضد المتظاهرين السلميين، وبث خطاباً تخويفياً في بيئته فحواه أن الطائفة مستهدفة لأنها الأقوى

حدثت وانتهت في الأيام الأولى واستجابت لها السلطة بما سمي الورقة الإصلاحية وباستقالة الحكومة، من جهة، ومجموعات حزبية وجمعيات مشبوهة وناشطين متطرفين لديهم أجندات لا علاقة لها بمصالح البلد، من جهة ثانية. وهؤلاء يجب التصدي لهم والانفضاض من حولهم.

المسعى الآخر لشرذمة اللبنانيين، هو العودة إلى اللعبة الطائفية. حزب الله إذ ورّط شبيحته (وشبيحة حركة أمل الشيعية) بصدامات عنيفة ضد المتظاهرين السلميين، وبث خطاباً تخويفياً في بيئته فحواه أن الطائفة مستهدفة لأنها الأقوى ولأنها هي الآن السلطة العليا في البلد، نجح نسبياً بارتداد المواطنين الشيعة عن المشاركة في الاعتصامات والتظاهرات إما اقتناعاً أو تهيباً لسطوة الحزب. أما الرئيس ميشال عون ومعه البطريركية المارونية فانتهجا خطاب "مقام الرئاسة خط أحمر" بوصفه المنصب الماروني الأول في الدولة وإسقاطه بالشارع يعني تقهقر الطائفة وانكسارها وتهميشها. ولم يتأخر الرئيس سعد الحريري وتياره السياسي عن اللعب أيضاً على الوتر الطائفي، من فور استقالته، إذ راح "تيار المستقبل" يبث خطاباً سنياً أن الانتفاضة أسقطت الرئيس السنّي وحده، دون رئيس الجمهورية المسيحي ودون رئيس مجلس النواب الشيعي.. وأن على السنّة الآن ركوب الانتفاضة وشعار "كلن يعني كلن" بهدف إما أن يعود الحريري رئيساً للحكومة المقبلة وإما أن يسقط الجميع، صوناً لـ"كرامة السنّة".

ما لا يقر به حزب الله والنخبة السياسية ورموز السلطة وأحزابها، أن اللبنانيين باتوا في الانتفاضة، حتى ولو امتنع شطر واسع عن المشاركة بها، بمعنى أن مطالب الانتفاضة الأساسية أضحت هي الرؤية الوطنية التي لا مهرب منها. فـ"العهد" (أي رئاسة ميشال عون) تهشمّ. شرعية مجلس النواب خسرت أساسها الديموقراطي: التفويض الشعبي. التركيبة السلطوية بأكملها في قفص الاتهام فساداً وفشلاً.

وأبعد من ذلك، المطالب المجمع عليها هي حكومة انتقالية مؤقتة من غير أحزاب السلطة وبمهام محددة أهمها إقرار قانون انتخابات جديد، وتحديد موعد لانتخابات نيابية مبكرة على أساسه، استعادة الأموال المنهوبة.

الأكيد أن "أجندة" الانتفاضة هذه دونها زمن قد يطول، لكنها بلا شك أضحت برنامجاً ملزماً ومعبراً إلزامياً لإنقاذ لبنان.