الانتفاضة اللبنانية: تحرير السياسة من العقلية الأسدية

2019.12.04 | 15:29 دمشق

thumbs_b_c_49bee1b65f645f93a5055e189130acc8.jpg
+A
حجم الخط
-A

إنها الحركة الاجتماعية الأولى ذات الطابع السياسي التي يشهدها لبنان منذ ثلاثين سنة. قبلها، كانت السياسة تدور بمنظور سوري، أسدي بالتحديد، تمكن حافظ الأسد من ترسيخها بالاستناد إلى التواطؤ الدولي معه. فكانت السياسة ترتبط بشخص الرجل وتقديراته الشخصية، وهذا ما انعكس على لبنان منذ ما بعد تكريس الوصاية السورية بعيد اتفاق الطائف. لكن الانفجار الذي حصل في 17 تشرين، وأخرج الناس إلى الشوارع، أثبت عدم قدرة هذه السلطة على إعادة إنتاج نفسها وإدارة شؤون الناس بدون الأخذ في الاعتبار معايير المتظاهرين ومطالبهم، وما حققته الانتفاضة من تغيير في الوعي اللبناني العام.

تعيد الصورة اللبنانية الجديدة، لبنان إلى ما قبل الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975، وتداخلت فيها عوامل كثيرة كان نظام حافظ الأسد أحد أكبر المؤثرين بها. مشهد ما قبل الحرب، كان متقدّما جداً على ما هو الواقع اليوم، إذ كانت الحياة السياسية متنازعة دائماً بين أقطاب سياسيين وبين حركات اجتماعية مثّلتها نقابات وهيئات عملية وحركة طلابية وحركات مطلبية. هذه الميزة أنهتها الحرب التي أدخلت لبنان في منعطف طويل بحيث أصبح التنازع بين ميليشيات لها امتداداتها الإقليمية. وبعد انتهاء الحرب وإرساء نظام الطائف، وهو في أساسه تسوية إقليمية دولية فرضت

عمل حافظ الأسد على تشتيت اللبنانيين وقواهم الاجتماعية والسياسية، كما شتت السوريين من قبلهم وأحكم أجهزة الاستخبارات في رقابهم

على المجتمع اللبناني، المنهك والمفكك والمضطرب. فأنتج نظام الأسد على صورته ومثاله السياسة في لبنان ما بعد الطائف، فدخل إلى إنهاء النقابات والجمعيات والأحزاب، وربط المسارات السياسية اللبنانية بأجهزة المخابرات.

في تلك التسوية، انتهت أي مفاعيل للحركة السياسية والاجتماعية، أفرغ حافظ الأسد السياسة من مضمونها. لم تكن سياسته تقتصر على إلغاء المجتمع السوري وأي دور له في الحياة السياسية في سوريا، إنما أراد تعزيز موقعه بتفريغ السياسة من مضمونها الاجتماعي، وهذا ما عمل عليه كما في سوريا كذلك في لبنان وفي القضية الفلسطينية. لبنانياً، عمل حافظ الأسد على تشتيت اللبنانيين وقواهم الاجتماعية والسياسية، كما شتت السوريين من قبلهم وأحكم أجهزة الاستخبارات في رقابهم. دفع السوريون واللبنانيون والفلسطينيون أثمان الرؤية الآحادية للنظام السوري سياسياً. فلم تكن النظرة إلى السياسة إلا وفق منظور الأسد وأعوانه. فأديرت الحياة السياسية من قبل جهات إقليمية ودولية يعمل على التوفيق فيما بينها حافظ الأسد، الذي ينتج هيئة حاكمة تمثّل كل موازين القوى الخارجية، خالية من أي مضمون اجتماعي.

بين عامي 1990 و2005، برز حزب الله كقوة عسكرية برعاية سيدين، هما نظام الأسد والنظام الإيراني، كأبرز تجليات الامتداد الإقليمي للسطوة الخارجية على الحسابات اللبنانية، ولذلك فإن السياسة لدى حزب الله هي إقليمية بالدرجة الأولى وليست محلية لبنانية أو قائمة على قواعد اجتماعية. الضربة الأولى التي تعرضت لها هذه التركيبة، كانت في العام 2005، إذ إن الحركة الاحتجاجية التي انفجرت بعد اغتيال الحريري، وكان الهدف حينها إعادة السياسة إلى الداخل اللبناني. لكن تلك الانتفاضة لم تكن خارج الرعاية الدولية للبنان، فأخذت طابعها السياسي وليس الاجتماعي، والعامل الدولي هو الذي أخرج الجيش السوري من لبنان.

أعيد إنتاج تركيبة النظام اللبناني وفق لعبة المنازعات والتقاسمات ذاتها وإن تغيرت بعض الوجوه. حالياً وصل لبنان إلى محطّة جديدة، يقول المجتمع اللبناني إنه طرف أساسي في الحياة السياسية، رافضاً لسياسة الغرف المغلقة وتركيبات ما فوق المجتمع. فتمكن المجتمع من إقالة الحكومة، ويفرض نفسه شريكاً ومقرراً أساسياً في تركيب أي حكومة جديدة.

جيل الحركة الاجتماعية الجديدة هو الذي يتصدر هذه الانتفاضة، وقد تكونت رؤيته السياسية ما بعد العام 2005، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى الشبان العراقيين المنتفضين وقد تكون وعيهم ما بعد العام 2003. يجري ذلك وسط تقلّص كبير لدور نظام الأسد

تأثير الشباب العراقيين واللبنانيين سينعكس حتماً على السوريين مجدداً. ما يجري هو تفجر الصفائح التي قامت عليها الإمبراطورية الإيرانية

الذي لم يعد مؤثراً بأي نسبة فيها. وهذه المرة الأولى التي تحصل هكذا تحركات تحولية كبرى لم يكن فيها لنظام الأسد أي تأثير. إنما واقعه مختلف تماماً، هو في حالة شلل وأسر دائمين، مفلس سياسياً واقتصادياً، وغير قادر على الاضطلاع بأي دور في كل المنطقة وحتى داخل سوريا إذ ينحصر دوره في نقاط جغرافية بسيطة ومحدودة جداً داخل سوريا.

تأثير الشباب العراقيين واللبنانيين سينعكس حتماً على السوريين مجدداً. ما يجري هو تفجر الصفائح التي قامت عليها الإمبراطورية الإيرانية، وتقطيع أوصال الهلال الذي كان يراد له أن يكون تجسيداً لتحالف الأقليات. المشكلة الأكبر التي تواجه هذه المنظومة التي أفرغت سوريا من سكانها ودمرتها وسحقت الثورة فيها، هي أن الانتفاضات الحاصلة ليست إلا عبارة عن انتفاضات اجتماعية ذات وجه سياسي، وليس انتفاضات سياسية، لا سيما أن البيئات المتفجرة هي بيئات حاضنة أو موالية لإيران وحلفائها. الواقع السوري ليس أسهل، خاصة في مناطق الساحل التي تئن من أزمات اقتصادية واجتماعية ومعيشية ومالية هائلة، أو الانفجار فيها أصبح قريباً، هذا النوع من الانفجارات سيكون عصياً على التشتيت بالاستناد إلى شعارات بائدة كالاختباء خلف ما يسمى بالمؤامرة أو بذريعة الإرهاب والاستقطاب المذهبي والطائفي، لأن المنتفضون هم من نفس مذهب المستحكمين، ومنطق المؤامرة ساقط لأن الناس تريد أن تأكل وتعيش بكرامة بعيداً عن أي سياسات خارجية، تريد أن تصنع هي سياستها، لا أن تكون شموعاً تحترق لتنير أنفاق الظلام والظلاميات.