الاقتصاد الأوروبي بين مطرقة التضخم وسندان الركود

2022.07.14 | 06:25 دمشق

اليورو
+A
حجم الخط
-A

قال البنك المركزي الأوروبي في محضر اجتماع لجنة السياسية النقدية الذي تم نشره في السابع من يوليو الحالي: (أنه يجب تعويض التأخير الضمني في رفع أسعار الفائدة، من حيث المبدأ، من خلال تنفيذ زيادة أكبر في أسعار الفائدة في يوليو أو من خلال إشارة المركزي الأوروبي بشكل أكثر صراحة إلى إمكانية تحرك سعر الفائدة بشكل أكبر في وقت لاحق من الربع الثالث من العام الحالي).

بهذا الإعلان يكون المركزي الأوروبي قد أعلن إنهاء إحدى الأفكار التي سادت خلال العقد الأخير وهي أن الفائدة المنخفضة والتضخم المنخفض هو إحدى حقائق اقتصاد منطقة اليورو.

بهذا الإعلان يكون المركزي الأوروبي قد أعلن إنهاء إحدى الأفكار التي سادت خلال العقد الأخير وهي أن الفائدة المنخفضة والتضخم المنخفض هو إحدى حقائق اقتصاد منطقة اليورو.

فقد قفز التضخم في الاقتصاد الأوروبي الى مستويات قياسية خاصة في منطقة اليورو التي سجلت نسبة تضخم غير مسبوقة والتي وصلت إلى 8.6% في شهر يونيو، وهو أعلى بكثير من هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2٪. و بدأ أعضاء مجلس إدارة البنك في الإشارة إلى نيتهم رفع أسعار الفائدة في يوليو الحالي، لكن البنك المركزي الأوروبي يجد نفسه في موقف صعب: ليس فقط في مواجهة ارتفاع الأسعار، الأمر الذي قد يستدعي زيادات سريعة في  أسعار الفائدة، ولكن أيضاً مع توقعات النمو السلبية.

السبب الجذري لكلا التطورين هو صدمة أسعار الطاقة الشديدة.  كانت أسعار النفط والغاز الطبيعي ترتفع بالفعل قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، أدت الحرب إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني. لقد لعبت أسعار السلع المرتفعة هذه دوراً أكبر بكثير في دفع تضخم أسعار المستهلكين في أوروبا إلى الارتفاع مقارنة بأميركا، حيث التحفيز النقدي وطباعة الدولار هي السبب الرئيسي للتضخم في الولايات المتحدة الأميركية. وفقاً لبنك Goldman Sachs الاستثماري، فإن أسعار الطاقة في منطقة اليورو - التي ارتفعت بمعدل سنوي ضخم بلغ 39٪ في مايو - تساهم بنحو أربع نقاط مئوية في التضخم الرئيسي، مقارنة بنقطتين في أميركا.

بدأت التأثيرات في الامتداد إلى أسعار المستهلكين الأخرى. ارتفع التضخم "الأساسي"، الذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة، بسرعة أكبر في منطقة اليورو في  يونيو الحالي مما توقعه الاقتصاديون. ارتفعت أسعار المنتجين الألمان بمعدل قياسي بلغ 33.5٪ في مايو، مقارنة بالعام الماضي، مدفوعة ليس فقط بالطاقة، ولكن أيضاً بالسلع الوسيطة ذات الاستهلاك الكبير للطاقة، مثل المعادن والخرسانات والكيماويات. الأمر الذي دفع وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر، للتصريح بأن (التضخم ينخر في أسس الاقتصاد الألماني)، نتيجة كل ذلك هو ارتفاع كبير في تكاليف الشركات وتكاليف المعيشة للأسر الأوروبية.

في هذه المقالة سوف نتحدث عن آثار التضخم على الاقتصاد الأوروبي وعن احتمالات الركود الاقتصادي  المدفوعة بصدمة ارتفاع أسعار الطاقة.

تآكل القوة الشرائية:

تتمثل إحدى نتائج صدمة الطاقة في انخفاض دخل الأسرة بالقيمة الحقيقية. زادت الأجور في كل أنحاء منطقة اقتصاد اليورو ولكنها مازالت دون مستوى التضخم. قام بعض أصحاب العمل بدفع تعويضات للعمال لمرة واحدة، لتعويضهم عن ارتفاع الأسعار ولكن بحدود ضيقة بسبب الخوف من ارتفاع تكاليف الإنتاج التي قد تؤدي إلى تشجيع التضخم وبالتالي الدخول في حلقة مفرغة. بلغ متوسط الزيادات في الأجور على مستوى منطقة اقتصاد اليورو نحو 2.8 % حتى نهاية مايو الحالي، لا يحبذ البنك الأوروبي القيام بزيادات كبيرة في الأجور بهدف عدم تشجيع تضخم الطلب والدخول في دوامة الأجور والأسعار، ولكنه بذلك يخاطر بحدوث انكماش في الطلب السعي وبالتالي الإضرار ببقية القطاعات الاقتصادية، فإضافة لمشكلات قطاع التصنيع، حيث الثقة في انخفاض حاد بالفعل. يؤدي تجدد اضطرابات الإمدادات نتيجة عمليات الإغلاق الأخيرة في الصين وارتفاع أسعار الطاقة إلى الإضرار بالأعمال التجارية، حيث تبدو ألمانيا وأوروبا الشرقية أكثر عرضة للتباطؤ الصناعي. فقد تراجعت الطلبات الجديدة الصناعية في منطقة اقتصاد اليورو في مايو للمرة الأولى منذ يونيو 2020، مما يشير إلى ضعف الطلب. كما انخفضت طلبات التصدير بأسرع وتيرة لها منذ عامين.

تباطؤ النمو أم الركود الاقتصادي:

أصبح تباطؤ النمو في اقتصاد منطقة اليورو أو حتى توقف الاقتصاد عن النمو أمر لا مفر منه، ولكن تبقى احتمالات الركود مثار جدل بين الاقتصادين، حيث يجادل البعض منهم بأن  بعض أجزاء الاقتصاد تواجه صدمة الطاقة من موقع القوة وليس الضعف. حيث  لا تزال العديد من شركات الخدمات تجني ثمار إعادة  فتح الاقتصاد بعد انحسار جائحة كورونا، وتستفيد بلدان جنوب القارة مثل إيطاليا وإسبانيا أكثر من غيرها نظراً لاعتمادها على السياحة كما لا تزال معنويات الأعمال في قطاع الخدمات قوية.

في مجال فرص لا تزال الوظائف وفيرة أيضاً. في جميع أنحاء منطقة اليورو، حيث أشارت البيانات إلى وجود ثلاث وظائف شاغرة لكل 100 وظيفة في الربع الأول من عام 2022، وهو مستوى مرتفع بالمعايير التاريخية. كما بقيت توقعات التوظيف للشركات قوية، وإن كانت أضعف قليلاً منذ بداية الحرب في أوكرانيا. فقد أشارت بيانات سوق العمل إلى شركة واحدة من كل أربع شركات في أوروبا تعتقد أن نقص الموظفين يمنعها من  زيادة الإنتاج.

كما أن انخفاض قيمة اليورو أمام الدولار يجعل أسعار المنتجات الأوروبية أكثر قدرة على المنافسة خارج منطقة اليورو، وبالتالي يحفز تصدير السلع والخدمات الأوروبية إلى الخارج.

وقد يخفف ذلك من نتائج تنامي ارتفاع أسعار المنتجات على خلفية الحرب في أوكرانيا، لا سيما في البلدان التي يعتمد اقتصادها على الصادرات، مثل ألمانيا والتي سجلت أول عجز تجاري لها في يونيو الماضي منذ ثلاثين عاما.

في حين توقع بنك مورغان ستانلي الاستثماري أن يدخل اقتصاد منطقة اليورو في ركود معتدل خلال الربع الأخير من هذا العام، إثر انخفاض إمدادات الطاقة من روسيا.

كما توقع مورغان ستانلي أن يرفع المركزي الأوروبي سعر الفائدة في كل اجتماع هذا العام لتصل إلى 0.75٪ بحلول ديسمبر، وذلك لكبح معدلات التضخم المرتفعة.

كما تعود الشكوك التاريخية للظهور من جديد حول قدرة المركزي الأوروبي في وضع سياسة نقدية واحدة مناسبة لمزيج متنوع من البلدان التي تمر بأوضاع مختلفة للغاية.

كما أن انخفاض قيمة اليورو أمام الدولار يجعل أسعار المنتجات الأوروبية أكثر قدرة على المنافسة خارج منطقة اليورو، وبالتالي يحفز تصدير السلع والخدمات الأوروبية إلى الخارج

صدمة أسعار الطاقة:

تعتمد أوروبا بشكل متزايد على الغاز الروسي، الذي استخدمه الرئيس فلاديمير بوتين كسلاح رداً على المعارضة العالمية لغزو أوكرانيا تعمل شركة غازبروم الروسية على كبح الصادرات عبر جميع خطوط الأنابيب الرئيسية إلى أوروبا، مما يعقد جهود القارة لتخزين ما يكفي من الغاز قبل موسم التدفئة الشتوي.

أسعار الغاز في هولندا، وهي معيار أوروبي لأسعار الغاز، أعلى بثماني مرات من المعتاد، وتشير  شركات الكهرباء إلى أن الأزمة قد تستمر حتى العام المقبل. حيث تشير التوقعات إلى أن أسعار الكهرباء ستكون أعلى بست مرات من متوسط الخمس سنوات الماضية في ألمانيا، أكبر سوق استهلاك للكهرباء  في أوروبا.

لن يؤدي هذا إلى زيادة التكاليف فقط بالنسبة للمستهلكين، ولكن أيضاً للصناعات ذات الاستهلاك الكبير للطاقة، من أفران الصلب إلى مصاهر المعادن إلى مصانع الإسمنت والكيماويات.

الأمر الذي دفع الحكومات إلى حد التخطيط لفرض ضرائب على أرباح شركات الطاقة. حيث وضعت إسبانيا والبرتغال حداً أقصى لسعر الغاز المستخدم في توليد الكهرباء، وتفكر بريطانيا في فصل أسواق الطاقة عن كلفة الغاز. وخلال اجتماع لقادة مجموعة السبعة في ألمانيا نهاية الأسبوع الماضي، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الطريقة التي يتم بها تحديد أسعار الكهرباء بأنها "سخيفة" وطالب بإصلاح السوق وضبطه من خلال استخدام استراتيجية سقف السعر.

الخلاصة:

تدفع أوروبا الآن ثمناً باهظاً لإحساسها الزائف بالأمن السياسي بعد نهاية الحرب الباردة، الأمر الذي جعلها تعتمد إلى حد كبير إمدادات الغاز الروسية التي اعتقدت أنها يمكن أن تثق بها على حساب التوسع في مشاريع الطاقة المتجددة وتنويع مصادر الطاقة، ويواجه البنك الأوروبي من جديد المعضلة التاريخية كونه اتحاداً نقديّاً من دون اتحاد مالي أو مصرفي، لذلك فهو يفتقر إلى الأدوات الضرورية للتعامل بفاعلية مع الصدمات التي تضرب الاقتصاد بطريقة غير متكافئة عبر بلدان منطقة اقتصاد اليورو  الأعضاء، لذلك يجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر: إما أن يستمر بسياسة التيسير النقدي والفائدة المنخفضة ويخاطر بارتفاع التضخم إلى رقمين، أو يشدد السياسة النقدية بعنف في إطار مواجهته للتضخم فيدفع اقتصادات بلدان جنوب القارة إلى الركود.