الاعتقال في سوريا.. حكاية للوجع السوري عمرها نصف قرن

2022.05.17 | 06:44 دمشق

atqalat.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ الانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد في تشرين الثاني عام 1970م، والذي أوصله إلى موقع السلطة في سوريا، أصبح ملف الاعتقال والسجون هو الملف الحاضر دائماً في حياة السوريين، حتى إنّنا نستطيع القول اليوم، وبعد نصف قرن من حكم عائلة الأسد، إن البيوت السورية التي لم تعرف تجربة السجن الموجعة أصبحت قليلة جداً.

تجتمع في تجربة المعتقلات السورية صفات عديدة، يندر أن تجتمع في تجارب شعوب أخرى، وهذا يعطيها فرادة خاصة، ويجعل من حضورها كقضية اجتماعية، وثقافية، وإنسانية أشد حضوراً من وجهها القانوني، والحقوقي، والسياسي، فهي فضلا عن كونها تجربة خاضتها أعداد هائلة من السوريين، وفضلا عن غياب الوجه القانوني الحقيقي عن كامل مجرياتها، وفضلا عن شروط أماكن الاحتجاز غير الصحية، وعن التعذيب الوحشي فيها، والمصنّفة ضمن المعتقلات الأشد بشاعة وقسوة في العالم.. الخ، فإنها إضافة إلى كل ما سبق، أصبحت مكاناً للقتل، وأصبح رعب قتل المعتقل المختطف من منزله أو عمله أو أي مكان آخر، هو الكابوس الدائم الذي يرافق أهله وذويه.

طوال نصف قرن من حكم هذه العائلة، لم تتمكن أي جهة حقوقية، أو قانونية، أو إنسانية محلية أو دولية من زيارة المعتقلات السورية

طوال فترة حكم عائلة الأسد، اعتمدت أجهزة المخابرات السورية نهجاً خاصاً في ملف الاعتقال، يستند في جوهره على تعتيم كامل، يبدأ من لحظاته الأولى وحتى نهايته بأي طريقة سواء بالموت أو بالإفراج، هذا التعتيم يبدأ من لحظة الاعتقال، فلا يمكنك أن تعرف الجهة التي قامت بالاعتقال، ولا مكان الاعتقال أو أسبابه، ولا أي شيء عن تفاصيله اللاحقة، بما في ذلك موت المعتقل، أو بقاؤه حياً، وطوال نصف قرن من حكم هذه العائلة، لم تتمكن أي جهة حقوقية، أو قانونية، أو إنسانية محلية أو دولية من زيارة المعتقلات السورية، وكل ما تم التوصل إليه وتوثيقه إنّما تم عبر أشخاص عاشوا تجربة الاعتقال، أو من أشخاص عاملين في السجون والمعتقلات، أو عبر شراء المعلومات.

لكي يكون التعتيم في ملف المعتقلين كاملاً، قام النظام بإرهاب أهالي وذوي المعتقلين، عبر تهديدات واضحة لهم بأن أي اتصال مع أي جهة حقوقية، أو سياسية، أو إنسانية، دولية أو محلية، وإبلاغها بقضية اعتقال أي شخص ستؤدي إلى معاقبة المعتقل بقسوة تصل حد القتل، الأمر الذي دفع بقسم كبير من أهالي المعتقلين إلى الصمت ونكران الاعتقال، معتقدين أنهم يشترون حياة معتقلهم، مقابل هذا الصمت أو النكران.

بعد انفجار الثورة السورية، أصبحت قضية الاعتقال أكثر وحشية واتساعاً وغموضاً، واليوم لا تستطيع أي جهة مختصة، أو أي من السوريين المختصين أن يعرف عدد المعتقلين، وهذا ما يفسر الفارق الكبير بين الأرقام المتداولة حول من دخلوا معتقلات النظام السوري، إذ تبدأ من ثلاثمئة ألف معتقل وتصل في بعض التقديرات إلى مليون معتقل، كما أنه من الصعب جداً معرفة عدد من بقي منهم حياً، أو من قتل تحت التعذيب، أو معرفة أماكن دفنهم، وهل دفنوا فرادى أو في مقابر جماعية، وهل دفنوا أو حرقت جثثهم، ليس هذا فحسب، بل إن أجهزة المخابرات السورية ذهبت أبعد من ذلك، إذ وجدت في هذا التعتيم مصدراً للثراء عبر بيع المعلومات لذوي المعتقلين المتلهفين لمعرفة مصير معتقلهم، ليتبين لاحقاً أن معظم هذه المعلومات كانت كاذبة.

كلّما كان النظام السوري بحاجة لتجميل وجهه القبيح، أمام استحقاق داخلي أو خارجي ما، كانت قضية المعتقلين تحضر أولاً، ولما كانت الحقائق مرعبة وصادمة كان النظام يلجأ إلى خدعة النكران، ويرفقها بنشر كم هائل من المعلومات المتناقضة، وفي غياب إمكانية التوثيق، أو غياب الجهات القانونية عن هذا الملف، يظل مصير المعتقل غامضاً، وما جرى مؤخراً في شوارع العاصمة دمشق، ومدن سورية أخرى من تجمع عشرات آلاف السوريين، الذين حاولوا التعرف إلى مصير معتقليهم، عبر سؤال العدد القليل من الأشخاص الذين أفرج عنهم، بموجب مهزلة خبرها السوريون جيداً، ويُطلق عليها النظام اسم "عفو" يدمي القلب.

قد يكون لنجاح التجربة التي قام بها النظام مع معتقلي تنظيم الإخوان المسلمين بشكل أساسي، ومعتقلين آخرين، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، دور أساسي في إعادة تكرارها مرة أخرى، في تلك التجربة عمد النظام إلى تعتيم كامل، خصوصاً بعد انتشار خبر المجزرة البشعة التي قام بها "رفعت الأسد" قائد "سرايا الدفاع"، وشقيق رئيس سوريا حينها "حافظ الأسد"، بحق معتقلي تنظيم الإخوان المسلمين، وأدت إلى مقتل مئات من السجناء العزل داخل زنازين وغرف سجنهم.

أصبح السوريون ينتظرون تسريبات لصور مجازر كما في تسريبات قيصر، أو فيديوهات مجزرة التضامن، ليبحثوا عن صور معتقليهم

ساهم ذلك التعتيم يومها في إضعاف صدمة الجريمة، فقد أنكر النظام حدوثها، وبالتالي فقد شكّك الكثير من السوريين بها، وتناقضت الأرقام لمن تيقنوا من حدوثها حول عدد ضحاياها، هذا ما جعل منها لغزاً غير قابل للحل، وعاش أهالي الضحايا سنوات طويلة بوهم أن من يخصهم ليس ضمن الضحايا، لقد استطاع النظام بطريقته هذه تجزئة الصدمة، واستطاع تفريغ شحنة الغضب عبر انتظار الأهالي الطويل، وراح النظام يكشف تفاصيلها شيئاً فشيئاً، الأمر الذي جنبه مواجهة نتائجها دفعة واحدة.

اليوم، ورغم الفارق الكبير في عدد المعتقلين، وفي عدد من قامت أجهزة النظام بقتلهم داخل سجونها، ورغم التفاوت الكبير في إمكانية وسائل الإعلام والاتصال، فإن النظام يمارس اللعبة ذاتها، وأصبح السوريون ينتظرون تسريبات لصور مجازر كما في تسريبات قيصر، أو فيديوهات مجزرة التضامن، ليبحثوا عن صور معتقليهم، أو يحاولون استجداء ذاكرة المفرَج عنهم ليعرفوا أي معلومة، وأصبحوا فريسة معلومات شديدة التناقض ينشرها النظام بوسائل متعددة، وللأسف فإن التخبط الإعلامي، وعدم المهنية لدى قسم كبير من معارضي النظام، يسهم في هذه الفوضى التي تعصف بملف المعتقلين.

لعلّ السوريين اليوم بأمس الحاجة إلى جهة حقوقية وسياسية، تعمل بمهنية عالية لتوثيق ملف الاعتقال، ولفضح جريمة الاعتقال في سوريا، والتي امتدت لنصف قرن، ودفع ثمنها السوريون أرواح مئات الآلاف من أبنائهم، وسنوات لا تعد ولا تحصى دفعوها من أعمارهم في أقبية سجون هي الأبشع في تاريخ البشرية المعاصر، ويشرف عليها نظام هو أيضاً الأبشع في تاريخ البشرية، ولفضح الفقاعات الإعلامية التي يطلقها النظام بين الفينة والأخرى تحت تسميات مخادعة مثل "العفو" أو المحاكمات المخادعة، أو تقارير الوفاة التي يصدرها النظام.

ليست مسؤولية السوريين فقط، إنها مسؤولية المجتمع الدولي وضمير الإنسانية أيضاً.