الاستقرار في المناطق المحرَّرة

2020.02.24 | 23:00 دمشق

swrt_mn_shrft_mnzl_alskry_002.jpeg
+A
حجم الخط
-A

بعد دخول الجيش الحر إلى مدينة حلب في تموز من عام 2012، وسيطرته على ما يقارب ثُلُثَي المدينة واحتفاظ نظام الأسد بالقسم المتبقّي منها، أصبحَت عاصمة البلاد الاقتصادية مقسومة إلى منطقتي سيطرة تفصل بينهما خطوط جبهات طويلة رسمَتها قدرة الجيش الحر على التقدم، وقدرة نظام الأسد على الدفاع، وبات ثوار المدينة من قاطني المناطق التي بقيَت خاضعة لسيطرة قوات الأسد "المحتلة"، يعيشون حياتهم متنقِّلين بين القسمين إلى أن اختار كل منهم مستقَرَّه الأخير في إحداهما، أو خارج البلاد كلها، فيما تنوعّت وجهات قاطني المدينة سواء من أهاليها أو الوافدين إليها، فمنهم من اختار البقاء في أحد القسمين، ومنهم من اختار النزوح إلى محافظات أخرى، ومنهم من غادر البلاد أيضاً.

اقرأ أيضاً مقالاً سابقاً للكاتب: "رمضان الثورة الثاني.. حلب بين مدينتين"

فتجمّعَت لدي مفاتيح 13 منزلاً تركها مستأجروها من الطلاب الذين كانوا يدرسون في جامعة حلب، أو أصحابها من أهالي المدينة الذين جمعَتني صداقة بأبنائهم قبل أن يغادروها، ولفترة قصيرة كنت أستطيع اختيار المبيت في أيٍّ من تلك المنازل، مع الخطورة الأمنية آنذاك على كل أصحاب "السوابق الثورية" في المناطق المحتلة.

وبعد سقوط قذيفة من دبابة أسدية أخطأَت هدفها في المناطق المحررة، لتثقب سقف مطبخ منزلنا في حي المارتيني الحلبي في المناطق المحتلة، اضطررتُ أنا و"أبو عروة" (أحد طلاب كلية العمارة في حلب من أبناء بلدة طيبة الإمام في ريف حماة) لاستخدام أحد تلك المنازل التي كنت أملك مفاتيحها لنقل كل "الممنوعات" من منزلنا إليه، بسبب عادة المخابرات التي كانت تداهم آنذاك المنازل المقصوفة خطأ، محذِّرَةً أهلها من تصوير أو نشر شيء يخصّ حالة القصف، دون أن ينسوا اجترار الكذبة التي يكرّرها إعلام النظام بمسؤولية "المجموعات الإرهابية" عن القصف.

لم تنفجر القذيفة لحسن الحظ وقتها، واقتصرَت الأضرار على ثقب سقف المطبخ فوق طاولة كنّا نجلس إليها قبل دقائق، فقمنا بنقل القذيفة إلى حديقة المارتيني القريبة، بعد نقلنا "الممنوعات" التي شملَت أعلام الثورة وأجهزة اتصال فضائي، وكاميرات تصوير وبعض عصيّ الكهرباء، إضافة إلى منظار ليلي ودرع مضاد للرصاص، وحمولة نصف سيارة من الأدوية والتجهيزات الطبية، وكراتين كنا نستخدمها لكتابة اللافتات وأشياء أخرى..

وهكذا اتّخذنا قرارنا بالانتقال النهائي إلى المناطق المحررة، خاصة بعد تأسيس "شبكة حلب نيوز"، وتحويلنا منزلاً متواضعاً في حي الفردوس إلى مقرها الأول.

اقرأ أيضاً مقالاً سابقاً للكاتب: "تشكل الإعلام المحلي في حلب بعد التحرير"

سيارة "متسوبيشي"

سبّب لنا تواجد منزلنا في المنطقة المحتلة مشكلة حقيقية آنذاك، فلم يكن ممكناً أنْ تستقلّ أيّ سيارة أجرة في حلب إلى الأحياء المحررة أو حتى إلى حيّ قريب منها، وهو ما كان أمراً ضرورياً بالنسبة لنا، بسبب الكم الكبير من المعدات المتواجدة في منزلنا كأجهزة الاتصال الفضائي والكاميرات وغيرها، والتي كنّا نعتزم نقلها جميعاً إلى المنطقة المحررة، فضلاً عن احتياجنا للتنقّل ضمن الأحياء المحررة نفسها والتي كانت سيارات الأجرة قد اختفت من شوارعها بعد التحرير.

وهو ما دفعنا للبحث عن سيارة نستطيع استئجارها لترتيب أمورنا في تلك الفترة، لكن من هذا الذي يقبل تأجير سيارة لشباب يريدون أخذها إلى المناطق المحررة؟!

لم يطُل الأمر كثيراً حتى وجدنا ضالّتنا عند "أبو محمد"، الرجل الذي أقلّنا بسيارته "المتسوبيشي" من مدينة حلب إلى ريف حلب الشمالي أثناء معركة تحرير إعزاز، قبيل تحرير المدينة، ثم ومع بدايات التحرير كان يقلّنا أحياناً من منزلنا في حي المارتيني إلى المناطق المحررة، في مهمة ندَر أن يقوم بها أحد آنذاك.

اقرأ أيضاً مقالاً سابقاً للكاتب: "ريف حلب الشمالي مُحَرَّرَاً.. (الجزء الأول)"

حيث قَبِل أن يؤجِّرنا سيارته مقابل 50 ألف ليرة شهرياً، مدركاً أنها قد تنتهي مدمرةً بقذيفة أو مصادَرَةً مِنْ قِبَلِ الأمن في حال اعتقالنا، لنتسلّم السيارة أواخر شهر آب وتصبح "المتسوبيشي لانسر" أولى سيارات الثورة التي حملَتنا.

بدأَتْ "المتسوبيشي" سريعاً تنفيذ المهام الصعبة بحمل عددٍ من أجهزة "بيغان" (أجهزة تستخدم للاتصال بالإنترنت من أي مكان) لنقلها إلى المنطقة المحرّرة، ولأنِّي -آنذاك- لستُ معتاداً على القيادة في المدن كان أبو عروة هو من يقود السيارة، أما أنا فكنتُ أمشي أمامها بشارع أو أكثر متأكداً من خلوّ الطريق من الحواجز.

من شارع "شنن" في حي المرديان، منعطِفين عند "الصيدلية المركزية" إلى الشارع الذي يمر تحت سكة القطار عبرَ "حي الفيض" باتجاه "حي المشارقة"، ومِن نهايته يميناً إلى "جامع حذيفة" الذي كان يفصل المناطق المحررة عن المحتلة، حيث كنتُ أتوقف عنده منتظراً "أبو عروة" لأركب معه، سالكين الطريق الموازي لمسرى "نهر قويق" إلى حي "بستان القصر" المحرر.

قدنا السيارة عبر هذا الطريق عدة مرات في الذهاب والعودة، مستغلِّين قلّة عدد الحواجز الأمنية في المناطق المحتلة، والتي كان قليلها الموجود يغادره العناصر مع حلول الظلام خشية هجوم الثوار، وهو ما دفعنا للتساهل في طريق العودة فلم نكن نكشف الطريق، حتى جاء اليوم الذي نصب فيه فرع الأمن العسكري في حلب حاجزاً عند الصيدلية المركزية قرب فندق الديديمان، ولحسن حظّنا فقد كان الشاب الذي فتش السيارة على الحاجز من  ريف دير الزور، والذي تغاضى عن عدم حملنا أوراق السيارة أو "شهادة سواقة"، سامحاً لنا بالمضيّ بعد أنْ أبلغ الضابط المسؤول عن الحاجز أننا "نظيفون"!

وبعد عدّة نقَلَات شبيهة تمكّنا من إيصال جلّ محتويات المنزل إلى المناطق المحرّرة، وودّعنا المناطق المحتلّة التي تضمّ جامعتنا على أمل لقاء كنتُ أراه -وما زلت- مسألة وقت لا أكثر.

منزلنا الجديد

بعد تنقّل "شلّتنا" التي ضمّت آنذاك إضافة إليّ أبو عروة ويوسف (أحد طلاب الماجستير في جامعة حلب من أبناء طيبة الإمام)، لفترة بين مقرّ الشبكة الأساسي في حي الفردوس، ومكتب الشبكة في حيّ صلاح الدين الإعلامي، تمكّن مدير مكتب الشبكة في حي السكّري "أحمد ربيع" من إيجاد منزل لنا في حيّه يناسب شروطنا، فقد رفَضنا الجلوس في منزل "مُصادَر" بتهمة انتماء صاحبه إلى "شبّيحة" نظام الأسد، أو في منزل لا يؤجّرنا إيّاه صاحبه مباشرة، وهو ما وجدناه في أحد مباني حيّ السكّري المُطلّة على دوّار جسر الحج، من شرفته في الطابق الثالث.

كان من الجنون حقاً أنْ يختار أحدٌ السكن في الطابق الثالث في مدينة تُصبِح وتُمسِي على قذائف مدفعية نظام الأسد تدكُّها، لكنّ مقاومة إغراء جِوَار "أبو هلال" صاحب منزلنا، والقاطن في الطابق الثاني من البناء نفسه، كان أمراً عسيراً! فهو الرجل الخمسينيّ الطيّب المنتمي للثورة بكليّته، والذي كان يرى تعويضنا نحن "الغربتليّة" عن أهلنا واجباً ثوريّاً.

ولعامَين تليَا بات اعتياديّاً أن نجد في المنزل "طبخة" تنتظرنا، أو نجد المنزل فارغاً من ثيابنا التي علّقَتها "أم هلال" على حبال الغسيل بعد تنظيفها، وحتى بعد أن تحوّل نظام الأسد عن استخدام القذائف إلى البراميل المتفجرة في عام 2013، والتي كان لحيّ السكّريّ منها حصّة كبيرة، لم نغادر المنزل.

وبات من مُتَع الدنيا القليلة في المناطق المحررة بالنسبة إليّ هو فنجان القهوة الصباحيّ من شرفته المطلّة على واحد من أجمل مشاهد مدينة حلب، والتي فارقتها مكرهاً أواخر عام 2013 قُبَيل انطلاق معركة تحرير المدينة من تنظيم داعش لأسباب أمنيّة.

لكنّ تلك قصّة أخرى..

كلمات مفتاحية