الاستثمار السياسي في الشتات السوري

2018.08.19 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تظهر كل الوقائع الميدانية والسياسية المتصلة بالصراع الوطني السوري ضد الاستبداد أن مرحلة جديدة قد بدأت، ففي الوقت الذي تمكنت فيه روسيا، بموافقة أمريكية وغربية وإقليمية، من إحداث تحوّل جذري في الأوضاع العسكرية، يصبّ بشكل أو بآخر لمصلحة السلطة السياسية الحاكمة في دمشق، في هذا الوقت، تراجعت مكانة القوى المسلحة والسياسية المعارضة، بل أن الجهات الرئيسة في المعارضة السياسية، أصبحت مقتنعة تماماً بأن مكانتها التفاوضية قد تقلّصت إلى الحدود الدنيا، خصوصاً لجهة ارتباط تلك الكيانات بدول إقليمية، تشاطر موسكو أبرز النقاط الرئيسة، في نظرتها إلى الملف السوري، ما يعني أن المعارضة السياسية، تعلم علم اليقين، أنها فقدت داعميها الإقليميين، فمعظم الدول الإقليمية التي ساندت قوى المعارضة، السياسية أو المسلحة، أصبحت مقتنعة بأن "سورية الروسية" أفضل بكثير من "سوريا الإيرانية"، خصوصاً أن موسكو تبدو جادة في تقليص الوجود الإيراني في سوريا.

إذاً، نحن أمام انعطافة جديدة في الوضع السوري، لن يكون بالإمكان معها لمعظم المعارضات السورية أن تعود إلى بلدها، على الأقل في المدى المنظور، فروسيا والنظام شكّلا، خلال السنوات الماضية، معارضات داخلية على مقاسيهما، وتشير المعطيات الأخيرة إلى بدء حوار حول المرحلة المقبلة بين النظام و"قوات سوريا الديمقراطية"، على خلفية الوقائع التي فرضتها تلك القوات في قتالها تنظيم "داعش"، بالإضافة إلى كون مبدأ الإدارة الذاتية في مناطق تواجد الأغلبية الكردية قد يوفر على النظام مهمة إدارة تلك المناطق، نظراً للنقص الكبير في موارده، أو في الكفاءات، أو لجهة إدارة الشؤون الأمنية.

يعلم النظام أن ملف عودة اللاجئين هو ملف شائك، وأن تحريك هذا الملف بجدية من قبل الدول الأوروبية وغيرها، سيحتاج إلى ضخ مالي كبير

لدى النظام، وأجهزته التنفيذية، شعور بنشوة النصر، وهو ما ظهر مؤخراً عبر تصريحات، أو تسريبات، لقادة أمنيين في أجهزة النظام، حول محاسبة السوريين الذين وقفوا على الحياد، في المعركة بين "الدولة"، وبين "الإرهاب"، وتشكل تلك التصريحات رسالة واضحة، حول طبيعة المرحلة المقبلة، وتمسّك النظام بأدواته القديمة، في إدارة شؤون البلاد، خصوصاً لجهة السلوك الأمني تجاه الشأن العام، وهو أمر يبدو مفروغاً منه، في ظل الوقائع الجديدة، وفي مقدمتها إخراج قوى المعارضة المسلحة من محيط العاصمة دمشق، والوصول إلى تفاهمات حول الجنوب السوري، برعاية روسية، مع إسرائيل.

يعلم النظام أن ملف عودة اللاجئين هو ملف شائك، وأن تحريك هذا الملف بجدية من قبل الدول الأوروبية وغيرها، سيحتاج إلى ضخ مالي كبير، ومن الطبيعي أن يبدأ بتجهيز نفسه للاستفادة من العوائد المالية التي يمكن أن تضخ في سياق إعادة لاجئي دول الجوار، وتحويل هذا الملف لمصلحته، لكن من دون أن يكون معنياً بخلق أوضاع وطنية وسياسية متناسبة مع هذا الملف، كما أن روسيا هي الأخرى ستكون أهم اللاعبين في استثمار الأموال التي سيتم ضخها من الجهات المانحة.

وسيبقى النظام، على ما اعتاد عليه من سلوك، في اللعب على التناقضات، في الشد والجذب، لاستثمار هذا الملف

ومع ذلك، فإن ملف عودة لاجئي دول الجوار سيبقى ملّفاً شائكاً، خصوصاً لجهة قناعة الكثير من الدول بضرورة أن تترافق عملية معالجة هذا الملف مع تحولات سياسية، حتى لو كانت مجرد تحولات شكلية، في الطبيعة السياسية للنظام، كما أنه ليس من السهل التفكير بإمكانية تأمين أوضاع الإسكان والمعيشة لملايين اللاجئين الذين يمكن أن يعودوا في لبنان والأردن والعراق وتركيا، وسيبقى النظام، على ما اعتاد عليه من سلوك، في اللعب على التناقضات، في الشد والجذب، لاستثمار هذا الملف، بما يخدم مصالحه المالية والسياسية.

وثمة نقطة جوهرية، وهي أن النظام لن يكون لديه إشكالية سياسية حقيقية مع عودة لاجئين لا يحملون أي هم سياسي، بل أنهم قاسوا أوضاعاً مزرية في مخيمات اللجوء، وسيحتاجون إلى وقت كبير، في حال عودتهم، كي يستعيدوا القليل من حياتهم السابقة، كما أنه، وبحسب خبرته الطويلة، خصوصاً في ملف الحرب الأهلية اللبنانية، يعلم بأن معظم الذين اختاروا اللجوء إلى الدول الأوروبية لن يعودوا إلى سوريا، فهم مشغولون بترتيب أوضاعهم الجديدة، والتي لن تستقر قبل سنوات طويلة، ولن تكون لديهم الرغبة في الانخراط في نضال سياسي، يتعلق بالقضية السورية.

لكن، ماذا عن المعارضات السورية الموزعة في المنافي؟ وكيف يمكن لها أن تعيد ترتيب أوراقها النضالية من جديد؟

لكن، ماذا عن المعارضات السورية الموزعة في المنافي؟ وكيف يمكن لها أن تعيد ترتيب أوراقها النضالية من جديد؟ أم أنها تنتمي بمعظمها إلى أحزاب تاريخية فقدت القدرة على المبادرة؟، هذه الأسئلة وغيرها ستكون مصيرية في تحديد المسار النضالي في المسألة الوطنية السورية، وستكون النخب السورية، من مثقفين وأكاديميين، ونشطاء، وسياسيين، معارضين، الدور الأبرز في تحديد وجهة النضال، ومنحه أشكالاً جديدة، بالاستناد إلى تجربة الثورة من جهة، وما شابها من انكسارات.

إن الاستثمار السياسي في الشتات السوري هو ضرورة وطنية، وقد يكون هذا الاستثمار شبيهاً بالأعمال الشاقّة، حيث تكتنفه الكثير من الصعوبات، خصوصاً لجهة ما اعترى السوريين من يأس تجاه العمل السياسي المعارض، وخيبة الأمل من ممارسات سياسيي المعارضة، لكن من جهة أخرى، فإن الأحزاب السياسية الناشئة في الأعوام الأخيرة، أو التي يمكن أن تنشأ لاحقاً، والتي تتبنى خطاباً مغايراً، يمكن أن تؤدي دوراً أفضل بكثير من الأحزاب الأيديولوجية التاريخية.

إن إيمان النخب السورية بضرورة استمرار النضال هو المفصل الرئيس الذي سيحكم مستقبل الاستثمار السياسي في الشتات السوري، خصوصاً فئة الشباب، وهو ما سيحتاج بالتأكيد إلى أساليب جديدة في التنظيم السياسي، وابتكار مناخ متعدد الأوجه، من الثقافة، والإعلام، والفن، لحشد طاقات السوريين في الشتات.