الإنسان في الثقافة العربية

2020.05.06 | 00:04 دمشق

alansan.jpg
+A
حجم الخط
-A

الإنسان (ظاهرة ثقافية) وهذا يعني أنه (ينتج ذاته بذاته)، ويصنع وجوده الذي يخصه بمعزل عن كل القوى المفارقة. وإذا كان الأمر كذلك، فهو يتخذ من (الثقافة) التي يصنعها وتصنعه مكاناً لسكناه أو إقامته في هذا العالم. وما من مسكن يظل لائقاً وملائماً للعيش بصورة دائمة. فمصيره، أن يضيق أو تتهدم أجزاء منه أو يسقط كثير من ركائزه. وعندئذ يتعين على الإنسان التسليم بأن الثقافة التي ألمت بها هذه الصروف قد أضحت مسكناً مؤقتاً له، وبالتالي لا بد من بناء مسكن تتوفر فيه شروط جديدة للعيش، وقدر أكبر من الحرية والذاتية، الأمر الذي يفضي آخر المطاف إلى هجر المسكن القديم وترك أطلاله لمن لايستطيعون العيش في ظل الثقافة الجديدة.

وإذا كان موضوع السطور التالية منصباً على مناقشة مفهوم الإنسان وصورته وتجلياته المختلفة في الثقافة العربية، فحول أي إنسان سيتمحور النقاش، إنسان الأطلال أم إنسان المسكن الجديد؟ وبما أن الشروط لم تتهيأ بعد لإقامة الإنسان داخل ثقافة جديدة، فيبدو أنه لا مندوحة لنا عن تركيز حديثنا حول إنسان الأطلال.

وهكذا فلو عدنا إلى الثقافة العربية التي ما تزال قائمة حتى اليوم، لوجدنا أن وثائقها المؤسسة تكشف عن أن صورة الإنسان في هذه الثقافة صورة ترتبط بالثبات والسكون وعدم التغييّر. أو بعبارة أخرى، الإنسان بمقتضى هذه الثقافة كيان محدد تحديداً تاماً، أو هو موجود قد وجد على النحو الذي هو عليه مرة واحدة وإلى الأبد ، وأنه تام التكوين ناجز الوجود قد وجد بحيث يكون من المتعذر على هذا الموجود، الذي نسميه بالإنسان، أن يدخل على نفسه أي نوع من التطور أو التغيّر، أو حتى أن تُدخل عليه جملة القوى المحيطة به شيئاً من التطور أو التغيّر.

وأول مرحلة في تاريخ الإنسان، بمقتضى هذه الثقافة، هي أنه قد كان معدوماً لا وجود له. ولأمر ما ولسبب ما لا يعرفهما أحد وجد الإنسان في هذا العالم بعد أن لم يكن. ومصادر التعبير عن هذا الانعدام أكثر من أن تحصى. ولكنها جميعاً تنتهي إلى تذكير الإنسان بأنه (لم يكُ شيئاً). وعندما كان أو صار، أي عندما تحول من العدم إلى الوجود فقد امتلك صورة ثابتة لا يستطيع تغيّرها أو الفكاك منها. فالوجود ـ وهو أغنى المفاهيم أو المقولات وأوسعها إطلاقاً ـ لا يكاد يتعين إلا في مجموعة قليلة من الصور الثابتة، أو في عدد قيل من التعينات التي يسهل علينا عدها وإحصاؤها، حتى أن جميع هذه الصور أو التعينات يمكن اختزالها وردها إلى بعضها بحيث تشكل في نهاية المطاف، صورا متقاربة أو صورا ثابتة قائمة من وراء كل الصور والتعينات التي ينكشف لنا وجود الإنسان من خلالها.

ولهذه الصورة الثابتة الناجزة التي تضع الإنسان خارج كل إمكانية للتغيّر أو التطور، تجليات متعددة يكون الإنسان بموجبها قد تم تكوينه على أفضل صورة يمكن للإنسان أن يكونها. وفي هذه الحالة يكون الإنسان (في أحسن تقويم). غير أنه قد يكون في تعين آخر بصورته الثابتة الناجزة في وضع مناقض كل المناقضة للصورة السابقة فيكون في هذه المرة (أسفل سافلين).

وبالإضافة إلى هاتين الصورتين النمطيتين بوسعنا العثور على صور أخرى أو تعينات أخرى للإنسان هي بدورها تجسيد أو تشخيص لماهيات محدودة بصورة مسبقة قد اتفق للإنسان أن اكتسبها، أوقد فُرض عليه اكتسابها. ومن أمثلة ذلك وصف الإنسان بأنه (خصيم، ظلوم  جهول، هلوع، كنود). والخصيم هو كثير الجدال في الكفر، والظلوم تحيل إلى ظلم الإنسان لنفسه ولغيره، والهلوع هو من يتصرف عن غير روية أو إدراك و تسرع، والكنود هو الكافر وغير المؤمن.

ومن الواضح أننا هنا بإزاء أوصاف تحيل كلها إلى أمرين هامين: أولهما الإنسان منطوٍ على خصائص سلبية تستحق الإدانة الأخلاقية والنفسية. وثانيهما أن هذه الأوصاف ذاتها تشكل نوعاً من الصور أو التعينات الثابتة التي تحيل في نهاية المطاف إلى الصورتين الثابتتين اللتين سبقت الإشارة إليهما (أسفل سافلين، أحسن تقويم) وتتحد بهما في الوقت نفسه.

الإنسان معطى من المعطيات في هذا الكون، أو مخلوق من مخلوقات الله التي ينحصر دورها في الإعراب عن كون الإنسان عاجزاً عن ُصنع نفسه وإنتاجها

وسواء أكان الإنسان ذا الصورة الثابتة المستقرة غير القابلة للتغيير (في أحسن تقويم) أو (في أسفل سافلين) أو غيرها، فإن الإنسان في الحالتين حبيس في صورة محددة مغلقة لا سبيل إلى تغييرها أو تطويرها أو توسيعها بالاعتماد على قدرة الإنسان ذاته. ذلك لأن الإنسان معطى من المعطيات في هذا الكون، أو مخلوق من مخلوقات الله التي ينحصر دورها في الإعراب عن كون الإنسان عاجزاً عن ُصنع نفسه وإنتاجها، بالمعنى الواسع لهاتين الكلمتين، أو بالمعنى الثقافي الذي يكون الإنسان بموجبه فعلاً من أفعال ذاته أو عملاً من أعمال إرادته، أو بعداً من أبعاد عقله. فبذلك، وبذلك فقط، يتم تخطي المعنى الذي يكاد يقصر معنى الإنسان على نوع من التعين المادي والروحي الناجزين اللذين يحرمان الإنسان من أهم خصائصه، وهي الحرية، ويجرد الإنسان من أهم طاقاته وقدرته على الفعل أعني الإرادة، ومن أهم ملكاته الذهنية والفكرية وأعني بها الاستخدام الحر والمبدع للعقل.

ولو سلمنا بأن الإنسان وفقاً للتصور السابق الذي يكون الإنسان بموجبه تام الصنع من الناحية الروحية والمادية، فإن غياب كون الحرية جزءاً من الماهية الإنسانية ذاتها، بل كون الحرية هي الماهية ذاتها، من شأنه أن يجعل الحياة الروحية فقيرة جداً. فما ينتج هدى الإنسان وضلاله، علمه وجهله، حبه وكرهه، إنما هو الحرية ذاتها التي تشكل الشرط الجوهري لكل حياة روحية فذَّة، ولكل ما من شانه أن يكون مصدراً للإبداع والابتكار. وبما أن الإنسان إما أن يكون هذا أو ذاك، ولا وسط بينهما، ولا كائناً مركباً منهما، أي كائناً لا يصنع ذاته بذاته، فالنتيجة المترتبة على ذلك هي أنه يظل حبيس ماهية محددة لايستطيع مفارقتها ولا الخروج منها. وبالتالي فإنه يكون مجبراً على أن يعيش ضمن ماهية محددة معينة مسبقاً لايقوم هو ذاته باختيارها و إنتاجها.

ومن الواضح أن هذه الصورة السلبية لفقدان الحرية هي جزء لا يتجزأ من البنية الأنطولوجية للإنسان. فما دام الإنسان مكوناً على نحو مكتمل، سواء في الإيجاب أو السلب، فليس به حاجة إلى الحرية. فغياب الحرية هنا بعد سلبي بكل تأكيد. هو سلبي بكل معاني السلبية أنطولوجياً وأخلاقياً. غير أن لهذه السلبية صورة إيجابية تتعين فيها وتكاد تتحدد من خلالها طبيعة الإنسان أو ماهيته تحديداً أدق و تعيناً يتسم بالمزيد من الوضوح و الجلاء.

فالكائن غير الحر كائنٌ مجبر، أو هو مكره على أن يفعل ما يفعله من غير اختيار منه، بكل معاني الاختيار. فالجبرية إذن هي الصورة الإيجابية، أو لنقل هي التعين الإيجابي الذي يتجلى من خلاله انعدام الحرية بالنسبة للإنسان أو حرمانه منها بحكم ماهيته المكتملة  التي يولد وهو مزود بها، أو قد يولد و هو مفطور عليها.

تلكم هي صورة الإنسان كما تثبتها الثقافة العربية وتتبناها. والأهم من ذلك كله هو أن تصور الإنسان هذا ما يزال هو التصور الأكثر انتشاراً، بل و الذي يمتلك السلطة والسيادة على نفوس أكثرية العرب وعقولهم. فإنك إن سرت في الأسواق والساحات العامة والمدارس والجامعات ودور العبادة، فستجد أن هذا التصور متحكم بذهنية الأكثرية من الناس، مما يجعلهم يشعرون بأنهم غير مسؤولين عما يفعلونه، وعما لا يفعلونه أيضاً.

وإذن فإن نقد كل العناصر التي فات أوانها ولم تعد عصرية في ثقافتنا وبات الذوق الإنساني يلفظها - كاعتقاد الناس العبودية في أنفسهم - ، أمر من الضروري ممارسته، بصورة جذرية، ومن غيره لن يمتلك الإنسان منا (وعياً ذاتياً فردياً بذاته) ليصبح بعد ذلك في حاجة وجودية إلى الحرية، ولينتقل من ذلك إلى امتلاك الحق في المطالبة (بالديمقراطية) فالديمقراطية بنت الحرية، ولا يستحقهما إلا الكائن الحر ابن الثقافة الجديدة التي لم تولد بعد.         

كلمات مفتاحية