الإمبريالية أولاً

2019.10.08 | 03:13 دمشق

1553340241-146-11.jpeg
+A
حجم الخط
-A

دامت محاضرتي أكثر من أربعين دقيقة استعرضت خلالها بشيء من الإيجاز مراحل تطور الأنظمة المستبدة في العالم العربي بعد نهاية حقب الاستعمار والانتداب والحماية التي فرضت عليها عقب انهيار إمبراطورية الرجل المريض السلطان عبد الحميد. وقد توسّعت قليلاً في سرد تفاصيل "مرعبة" عن أساليب الأنظمة "الوطنية" في تدمير النسيج المجتمعي وفي إفشال العقد الاجتماعي وفي تدمير البنى الأولية للدولة الوطنية المُبتغاة. كما لم أبخل في إعطاء الأمثلة الموثّقة بالمصادر وبالتواريخ درءاً لأي شكٍ أو تشكيك. وأخيراً، استخلصت بعض النتائج التي أجد أنه من الضروري التوقف عندها والتي توضّح أي مستقبل ينتظر هذه الدول وشعوبها في ظل استمرار الدكتاتوريات متربصة بأنفاس الحرية ومتحفّزة للانقضاض على أية محاولة، مهما صغرت واعتدلت، لنيل الحد الأدنى من الكرامة والاحتفاظ بأقل مستوى ممكن من الوطنية الجامعة قبل اندثار أي معنى للانتماء الوطني وسيطرة الانتماء الضيق ما قبل الوطني إلى ما لا نهاية.

وعند الانتهاء من المحاضرة ومن الحوار المثمر مع الحضور، اقترب مني صديق من كبار الأساتذة في العلوم السياسية في جامعته، ويكاد أن يبلغ سن التقاعد، وضمني إلى صدره بقوة أعيت أضلاعي وتمتم في أذني: "اطمئن يا صديقي، سننتصر على الامبريالية".

للوهلة الأولى، والتي لم تطل للأسف، أطلقت ضحكة جنونية معتبراً بأن ما تقدم به الصديق الأستاذ الجامعي "المتمكن" ما هو إلا عبارة عن سخرية سوداء من حال العرب ومن في حكمهم الخاضعين لديكتاتوريات فاقت الاستعمار ظلماً وقسوة. ولكنني سرعان ما انتبهت إلى ما نقلته لي تعابير وجهه بعد ابتعاد أضلاعنا عن منطقة الاشتباك، ليتضح لي بأنه يعني ما يقول وهو صادق فيما يقول وهو متأكد مما يقول. وخلال لحظات قليلة راودتني نفسي أن أجيبه وأدعوه للاستيقاظ من غفوة أهل الكهف الإيديولوجي التي أصابته كما العديد من أقرانه الذين يحلو لي أن أسمّيهم بالبافلوفيين. إلا أنه تابع في "غيّه" مُشيراً إلى نهب المستعمرين لدول إفريقيا التي هو ينتمي إلى إحداها في الأصل. كما أنه لوّح بالسياسات التقسيمية التي اتبعتها القوى الغربية بحق الشعوب التي استعمرتها. لينتهي أخيراً عند زرع الغرب لجسم غريب في منطقتنا العربية والذي يسمى إسرائيل.

كلام حقٍّ في المطلق، لكنه باطل تماماً، وخصوصاً، كتعقيب مباشر على محاضرتي التي تطرقت من بابها إلى محرابها إلى دور وأثر الاستبداد المحلي و "الوطني" المدمّر، واستندت في متنها إلى "بديهية" أن الاستبداد أشد قبحاً من الاستعمار

كلام حقٍّ في المطلق، لكنه باطل تماماً، وخصوصاً، كتعقيب مباشر على محاضرتي التي تطرقت من بابها إلى محرابها إلى دور وأثر الاستبداد المحلي و "الوطني" المدمّر، واستندت في متنها إلى "بديهية" أن الاستبداد أشد قبحاً من الاستعمار وبأن المستبد هو خير عونٍ للاستعمار أو حتى أنه أفضل مُهيئ للظروف الموضوعية للاستعمار على أشكاله.

غالباً ما تقضي الأنظمة الاستبدادية على حيوات مواطنيها بحجة معاداة الإمبريالية أو سواها من "الأعداء" الحقيقيين أو المتخيلين ولكن ممن حمتهم الأنظمة نفسها من أن يقلقوا على أي من مصالحهم التوسعية أو الاقتصادية. وكما هو عنوان برنامج المسابقات الفرنسي، "سؤال لبطل"، يجب طرح سؤال المليون التالي: "كم من الأنظمة العربية، منذ فجر الاستقلال، واجهت فعلاً ما يسمى بالإمبريالية وقارعتها وتحدّتها، فعلاً وليس قولاً"؟. إن كان الجواب بأنه نظام صدام حسين، بعد أن أهلك شعبه وسرق خيراته ودمر حيواته وشتته طوائفاً وقبائل ليتحاربوا، هو الذي يمكن أن يُعتد به كأحد الذين واجهوا السيدة "إمبريالية"، أو أنه نظام العقيد القذافي، مُهرج المنابر وناهب الثروات واللاعب على الانتماءات القبلية ومؤجج الحروب الإقليمية وممول التنظيمات الإرهابية، فالمُجيب بذلك ليس ذاك "البطل" المنتظر بل هو ينتمي إلى غوغاء البافلوفيين الذين يهيمنون على التيارات اليسارية والقومية إلا فيما رحم ربي.

وبمناسبة الحديث عن الإمبريالية الغربية، فمن المهم بمكان أن نطرح تساؤلاً على من تعميه هذه العجوز عن شقيقتها أو ابنة عمها الشرقية الشابة والتي دعاها ذئب انتهاء الحرب الباردة لتكون بدورها إمبريالية عشوائية

ربما، وأشعر بصعوبة في النطق بهذا، يمكن اعتبار جمال عبد الناصر هو الوحيد الذي قال كثيرا وفعل قليلا في مواجهة السيدة "إمبريالية" بوجهها الغربي حصراً. وذلك على الرغم مما يمكن اعتباره سذاجة في المواجهة هذه آلت إلى مصائب لا تُعد ولا تُحصى على شعبه أولاً وعلى شعوب الجوار فيما بعد.

وبمناسبة الحديث عن الإمبريالية الغربية، فمن المهم بمكان أن نطرح تساؤلاً على من تعميه هذه العجوز عن شقيقتها أو ابنة عمها الشرقية الشابة والتي دعاها ذئب انتهاء الحرب الباردة لتكون بدورها إمبريالية عشوائية الأداء في الحقول السياسية والاقتصادية والعسكرية. إمبريالية تطوّرت في ظل النضال المعادي للإمبريالية وساهمت في تغيير موازين القوى والاستقطابات. إنها الإمبريالية الشرقية إن صحّ التعبير، أي الإمبريالية الروسية التي لا يراها غوغاء الأيديولوجيا الذين لم يصل إلى مسامعهم بعد أن الاتحاد السوفييتي قد سقط وزال، بعد أن تهاوى عقوداً، ليس بسبب الامبريالية الغربية فحسب، بل لفقدان شعوبه إلى الحرية والديمقراطية. صارت الإمبريالية الشرقية التي تضم الصين أيضا، هي بعبع جديد يجب ضمّه إلى قائمة المتهمين حتى نصير منصفين. وإن ثابرنا في النظر غرباً فنحن نثابر في زيادة درجة العماء التي أصبت نخبنا منذ فشلها في لعب أي دور، ليس بسبب القمع والاستبداد فحسب، بل أيضاً بسبب تمسك جزء كبير منها بتالف الكلام وسطحي التعبير.