الإمبراطورية الروسية الكبرى ومذبحة باتوريا

2022.03.18 | 04:47 دمشق

kyyf_46.jpg
+A
حجم الخط
-A

في خطاب لفلاديمير بوتين ألقاه في أواخر شباط الماضي قال فيه إن أوكرانيا هي مجرد دولة وهمية، وهذا المسطح الجغرافي الذي يدعي أنه أمة هو ابتكار لينين، الذي هندس، بحسب بوتين، أوكرانيا بطريقة القص واللصق، وأعطاها شعورا قوميا تحت الراية البلشفية، فتضخم لديها هذا الإحساس بمجرد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت تتصرف على أنها كيان سياسي يشكل وحدة جغرافية وقومية منفصلة. صب بوتين لعناته على لينين وعلى الشيوعية التي أخرجت للعلن هذا الكيان، بعد أن قدمت له أجزاءً من أراضيها ومن أراضٍ أخرى، لينطبق عليه وصف الدولة، وقد غاب عن ذهن بوتين أن كييف عاصمة أوكرانيا قد أُسست قبل موسكو نفسها، وكان فيها دولة قوية سيطرت على مساحات كبيرة من روسيا، وأن كييف أطلقت الثقافة الروسية ومنها نشأت.

الإمبراطورية الروسية لاحقا سيطرت بالفعل على أجزاء من أوكرانيا، وخاصة في قسمها الشرقي، فيما توزعت الأراضي الغربية بين ليتوانيا وبولندا، وكذلك الإمبراطورية النمساوية – المجرية، مما سمح بتشكل ثقافي مشترك: الأزياء والطعام وبعض العادات، والانتماء المذهبي الأرثوذكسي على وجه الخصوص، لذلك آمنت روسيا بأن أوكرانيا يجب أن تتصرف كتابع مطيع لروسيا، وعليها بالتالي أن تبقى ضمن دائرة سيطرتها، ولكن الأوكرانيين صوتوا بكثافة في العام 1991 لصالح الخروج من الاتحاد السوفيتي، ودولتهم منذ تلك اللحظة تتحرك ببطء وخوف بعيدا عن روسيا، رغم الحدود المشتركة التي تشكل تهديدا حقيقيا لهم، ورغم الخاصرة الضعيفة في الشرق التي تضم ناطقين بالروسية ما زالوا على ولائهم القديم لموسكو، وقد استثمرت موسكو في تأليبهم على حكومة كييف إلى أن وصلوا إلى نقطة الإعلان عن أنفسهم كدولتين مستقلتين، يخوض بوتين اليوم حربا تحت عنوان حماية استقلالهما.

ينكر بوتين التاريخ فيصف أوكرانيا بالدولة الوهم، وقد بدأ بعملية قضم أراضيها عام 2014، عندما ابتلع شبه جزيرة القرم، وهي سياسة توسع علنية، تستدعي على الفور الإرث الإمبراطوري الروسي، الذي اشتهر أباطرته ممن نجحوا في التوسع على حساب أوروبا، فنال بطرس الكبير أول لقب إمبراطوري بعد أن تخلى عن لقب قيصر، تمهيدا للابتعاد عن إرث الإمبراطورية البيزنطية التي كان القياصرة الروس ورثتها. أراد بطرس الأكبر تأسيس إمبراطوريته الخاصة في ذلك الوقت، وشرطها الأساسي رقعة الجغرافيا الكبيرة التي تحتلها، وكان الملك السويدي كارل الثاني عشر قد أنهى من الناحية العملية إمبراطورية بولندا وليتوانيا، ونظر نحو الشرق في روسيا حيث بطرس الأكبر. أحس بطرس بالخطر فبنى مدينته المحصنة سانت بطرسبورغ، وفرغ لها ورديات العمل في الليل والنهار وشحنها بالرجال والسلاح ولم يوفر أحدا، فحشد العمال والفلاحين ورجال الدين ليبني جيشا قويا كثير العدد.

ينكر بوتين التاريخ فيصف أوكرانيا بالدولة الوهم، وقد بدأ بعملية قضم أراضيها عام 2014، عندما ابتلع شبه جزيرة القرم، وهي سياسة توسع علنية، تستدعي على الفور الإرث الإمبراطوري الروسي، الذي اشتهر أباطرته ممن نجحوا في التوسع على حساب أوروبا

تحرك كارل الثاني عشر من بولونيا واجتاز نهر فيستولا باتجاه موسكو، وعبر روسيا البيضاء، بعد أن هزم حامية روسية في مدينة هرودنا على الحدود مع ليتوانيا، وتجول جيش ملك السويد بحريّة في أرجاء ليتوانيا وبيلاروسيا حتى وصل إلى مشارف مينسك دون مقاومة، وانتظر انقضاء فصل الشتاء، وجفاف الطرقات، وظهور العشب الأخضر، فانطلق باندفاع جديد عبر السهول المنبسطة في بيلاروسيا، واستطاع أن يشق جيش بطرس الأكبر إلى قطعتين، محققا نصرا مبدئيا سهلا، وتابع تقدمه حتى وصل إلى الضفة الغربية من نهر الدينيبر. اعتمد بطرس الأكبر خلال انسحاباته المتكررة على الضربات السريعة والهروب، محققا بعض الأذى في جيش كارل السادس عشر الذي ما زال متماسكا ويمول نفسه من الأرض التي يستولي عليها، فيما كان بطرس الأكبر يوقِّع أحكام الإعدام بحق كل شخص يثبت تعاونه مع السويديين، ويعتمد سياسة الأرض المحروقة فلا يترك أي شي خلفه يمكن أن يستفيد منه ملك السويد.

حلم الإمبراطورية يراود بطرس الأكبر، ومع تقدم الملك كارل يتلاشى شيئا فشيئا، رغم تكتيكات بطرس العسكرية، إلا أن كارل كان يواصل تقدمه مع شح الموارد المتوفرة، وكان عليه أن يكسب إيفان مازيبا زعيم القوزاق الأوكرانيين، فقد أصبحت أوكرانيا ساحة المعارك للوصول إلى موسكو، أما مازيبا فكان قائدا عسكريا شجاعا ذا تربية غربية، ولكنه خاضع للقيصر الروسي، وتُركت له مساحة للحكم الذاتي يمارسها من عاصمته باتوريا، ووجد فرصة سانحة للتخلص من الروس بالالتحاق بجيش الملك كارل، والاتجاه معا نحو باتوريا حيث يكدس مازيبا أطنانا من المؤن الغذائية والعسكرية، ولكن بطرس كان أسبق بإرساله العميد ألكسندر منشيكون على رأس عشرين ألف جندي حاصروا عاصمة مازيبا (باتورين) لخمسة أيام، وعندما استسلمت قتلوا جميع من وجدوهم داخل المدينة ونكلوا بأهلها، وتحولت من عاصمة للقوزاق إلى بلد مهجور ومنسي. وتم وصم إيفان مازيبا بالخيانة العظمى، حتى ما بعد استقلال أوكرانيا عام 1991، حيث أعيد له بعض الاعتبار بوصفة ثائرا يريد الاستقلال، ولكن سقوط باتوريا كان ممهدا لسقوط الملك كارل نفسه، ومعه مازيبا، في المعركة التالية، وكرس القيصر بيتر الأكبر نفسه إمبراطورا على جثث أهالي باتوريا القوزاق.