الإعلام والشارع.. تفاعل باتجاه واحد

2022.05.25 | 06:21 دمشق

الإعلام
+A
حجم الخط
-A

لطالما كانت العلاقة بين المواطن والسلطة محطّ شدّ وجذب، فمن المفترض أن تستمد الأخيرة قوتها من الشعب، إلا أنّ حقب تشكّل الدول ونشوئها تُبيّن أن هذه العلاقة لم تكن متوازنة على الدوام، وقد أصابتها فترات خلل أدت إلى توتر مستمر وتغير موازين القوى بشكل تدريجي.

بعد أن شرعت السلطة السياسية بوضع يدها وبسط نفوذها على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية كان على الشعب أن يبتكر طريقة للمحاسبة وللتعبير عن الرأي وكان الإعلام هو المرشح الأول لأداء هذه المهمة، على اعتبار أنه غير خاضع لسلطة أحد ويمكن أن يكون صوتاً يحدّ من مغالاة المؤسسات السياسية في استخدام سلطاتها.

كانت الفكرة أن تكون وسائل الإعلام سلطة رابعة وصوتاً للصامتين ووسيطاً لإيصال الرسالة التي يعجز عن إرسالها من لا يمتلك منبراً، إلى أصحاب النفوذ والمتحكمين في القرار ومحاولة موازنة العلاقات بينهما ووضع ممارساتهم في ميزان الحق والعدل.

مع تمدد وتوغل النظم الأمنية وبسط سيطرتها على مؤسسات الدولة، أصبحت المؤسسات الإعلامية الرسمية - التي من المفترض أن تكون حرة - مرهونة لحساب السلطة وأداة لأجل ترويج خطابها وإقناع الشعوب بإيديولوجياتها، ساهم في ذلك أن وسائل الإعلام تعد الوسيلة الأساسية والمصدر الأهم للحصول على المعلومات سواء كان ذلك عن طريق الراديو أو التلفاز أو حتى الصحف والجرائد الرسمية.

احتكار صوت السلطة الرابعة أدّى إلى بسط سيطرة الأجهزة الأمنية على رمق الشعوب الأخير، وأصبح صوتها هو الصوت الوحيد الظاهر في الحياة السياسية والعامة فيما غاب صوت الشعوب وأصبح الخوف هو العامل المسيطر

احتكار صوت السلطة الرابعة أدّى إلى بسط سيطرة الأجهزة الأمنية على رمق الشعوب الأخير، وأصبح صوتها هو الصوت الوحيد الظاهر في الحياة السياسية والعامة فيما غاب صوت الشعوب وأصبح الخوف هو العامل المسيطر، قبل أن يختفي ذلك الصوت إلى وقت طويل بسبب الرعب من المخالفة ومعارضة أولي الأمر، إلى أن أصبح الشعب نفسه هو صوت السلطة بسبب التأثير المستمر للخطاب الإيديولوجي الذي تعتمده.

بعد السماح باستثمارات القطاع الخاص في مجال الإعلام عاد الأمل مجدّداً باستعادة الإعلام مكانته الأساسية، من خلال محتوى مشغول بشكل مهني ومقدم لجمهور مطلع بحسب اهتماماته من أجل العمل على التأثير في المجتمع فكرياً وعلمياً وذلك بحسب تنوع الفئات الجماهيرية وتعددها، إلا أن تحكم الممول وصاحب المشروع في الخطاب الذي يبث عبر محطات الإعلام سواء درامياً أو ثقافياً أو سياسياً بحسب الأجندة المحددة، كان حجر عثرة أمام عودة الإعلام إلى أوجِه.

ما حصل كان على خلاف المرجوّ إذ أصبحت وسائل الإعلام الجديدة مكاناً لغسل أدمغة الجماهير وتقديم معلومات مضللة، قد لا يتحقّق المتفرج منها وتصبح بمثابة معلومات مقدسة غير قابلة للمراجعة والتدقيق، وهذا ما يحصل حالياً في كثير من دول العالم مع تصاعد أزمة اللاجئين عالمياً وصعود اليمين المتطرف في أوروبا ومحاولة فرض أفكاره المتطرفة والعنصرية في المجتمعات، بحيث أصبحت وسائل الإعلام منابر لتقديم معلومات مغلوطة بخصوص اللاجئين لشحن فئات المجتمع ضدهم وتحييدهم عن الاندماج، بهدف الضغط عليهم وحشد أصوات المؤيدين لتلك الفكرة.

وبما أن مسألة الولاء الأعمى تعيق في كثير من الأحيان محاكمة الأمور بصوت العقل، وتغيب الخطاب الواعي لتصبح مهمة المنتمي الانتصار لأفكار الحزب التي تلقاها عبر منصته الإعلامية حتى وإن كانت غير متناسقة مع الفكر الإنساني، فقد أثر ذلك على انسجام المجتمعات المضيفة مع اللاجئين وجعل من الصعوبة بمكان تقبل كل طرف للآخر.

ظهر أثر ذلك أيضاً في المنافسات السياسية لأنها أصبحت - أي وسائل الإعلام - مع الوقت مكاناً للمناظرات وتبادل الاتهامات بين الأحزاب الفاعلة في الحياة السياسية، وغالباً ما يكون ذلك محكوماً بأجندة سياسية أو استثمارية قادرة على جذب أكبر عدد من المشاهدين، من أجل استقطاب أكبر عدد من الرعاة الممولين لهذا البرنامج أو غيره.

أدّى ذلك إلى فقدان التوازن بين الشعب والسلطة وغياب أهمية وسائل الإعلام الحقيقية في شكل الحياة، فأصبحت ذات تأثير محدود ينحصر بالتسلية وبتلميع صورة السلطة أو الحزب التي تتحدث باسمه، مع غلاف تجميلي يدّعي حالة الدفاع عن صوت الشعوب، ففقدت صوتها المستقل الذي من واجبه أن يلعب دور الوسيط الحر الحيادي بين الشعب والسلطة.

تصبح الجماهير وفقاً لذلك خاضعة لأدلجة سياسية، فتنقلب الآية مع الوقت بحيث تكون الشعوب صوتاً للسلطة بينما كان المفترض أن يكون للشعوب صوت لنقد السلطة من أجل تقويم أخطائها.

الحقيقة الواضحة اليوم هي أن وسائل الإعلام الرسمية أصبحت معزولة عن مجتمعاتها بشكل كامل ومنفصلة عن الواقع، وتبدو أنها تقدم محتوى في كواكب موازية لا علاقة لها بالواقع المُعاش

الحقيقة الواضحة اليوم هي أن وسائل الإعلام الرسمية أصبحت معزولة عن مجتمعاتها بشكل كامل ومنفصلة عن الواقع، وتبدو أنها تقدم محتوى في كواكب موازية لا علاقة لها بالواقع المُعاش، ففي حين كان النظام في سوريا يدّعي الحرب على الإرهاب والاستنفار لدحر المؤامرة الكونية، كانت البرامج الصباحية في المنصات نفسها تتحدث عن معرض الزهور وتستضيف المطربين الشعبيين ذوي الأصوات النشاز وتقدم توقعات الفلك على سبيل المثال.

كان من المتوقع أن تشكل وسائل التواصل الاجتماعي فرقاً لتكون منبراً لا يخضع لقوانين السلطات المحلية ولا يعبر عنها، غير أن ذلك أيضاً بات مخترقاً ومراقَباً بطرق مختلفة وأصبح مجندو الأجندات يعيثون فيه فساداً وينثرون فيه سمومهم.

وعلى أن ذلك أصبح أمراً واقعاً غير أننا لا يمكننا القول بانعدام التأثير المتبادل بين وسيلة الإعلام والشارع، غير أن المشكلة تكمن في أن الأمر انعكس تماماً وأصبح تفاعلياً باتجاه واحد، بحيث أصبح الشارع يتأثر بالإعلام أكثر ما يتجاوب الإعلام مع قضايا الشارع فأصبحت السلطة الرابعة موجِّهة للرأي العام لا معبِّرة عنه.