icon
التغطية الحية

الإرث الثقيل في ذاكرة حرائق مخيم اليرموك

2022.08.06 | 13:18 دمشق

يرموك
+A
حجم الخط
-A

يبقى لوقع مخيم اليرموك رنين في ذاكرة كل من عرفه عن قرب، لقد كان تعبيراً صارخاً غير مهادن عن الذات على طرف مدينة تغرق بالسفاسف وخطاب السلطة الصدئ وتختنق بالرقابة الصارمة، ويتلبّسها المخبرون كالجن وتصول فيها دوريات الأمن وتجول كمارد سماوي لا يمكن لأحد الوقوف في وجهه، فيُصلّون بالصمت اتقاء لغضبه.

كثيرون من حكموا على خاصرة دمشق الجنوبية بظواهر سلبية وقاموا بتعميمها، كـ "التسويك" والتحشيش وتعاطي الحبوب المخدرة... إلخ، لكنه حكمٌ بعيد عن الصواب ومجاف للحقيقة، إذ غيّبوا وغابوا عمّا تفتقره عاصمة كدمشق من نشاط سياسي وثقافي واجتماعي لن يعيضه مكان في سوريا كما كان يفعل مخيم اليرموك. نتيجة لنصائح من ذلك القبيل خسرت سنتين إضافيتين كان يمكن أن أعيشهما في المخيم فتأخر تعرّفي الفعلي عليه حتى نهاية 2004.

كانت لليرموك سطوة لا يمكن مقاومتها بجدرانه التي تشبه نشرة ثقافية وسياسية متعاقبة دالة على الزمن العربي المتآكل، وبمنحوتاته ومنقوشاته الخشبية والحديدية التي تملأ بسطات الأرصفة وواجهات المكتبات: العَلم وحنظلة وخارطة فلسطين وصور (أبو عمار) والحكيم (جورج حبش) ودرويش وكنفاني، أغاني فرقة العاشقين وسميح شقير، جدارية العودة، الشتات العربي الذي بنى أعشاشه في عاصمة الشتات حيث أصبحت أكثر رسوخاً وتأثيراً من أن تسمى (مخيماً) لكن حلم العودة الذي غذى هوية المكان رفض التنازل عن التسمية... كل ذلك يقول لمن يلج المخيم: "أنت الآن في مكانك الصحيح".

(للدروب أسماء قرى الجليل ومدائن البحر والجبال الحزينة، وأسماء الراقدين في مقابر الشهداء).

الحرب تفتك بكل شيء، ومخيم اليرموك كضحية مباحة، لم يلق الرحمة من أي طرف، ابتداء بالنظام السوري مروراً بـ "جبهة النصرة" وتنظيم "الدولة" وانتهاء بالسلاح الروسي الذي حوّله إلى خرائب بحجّة القضاء على تنظيم "داعش" (الذي أركبوا عناصره في الحافلات المكيفة وأوصلوهم بكل سلامة إلى أطراف السويداء بعد ذاك). لا شك ان حياة الإنسان وملكيته هي القيمة الأكبر التي يمكن أن تُخسر، ولكن هذا لا ينفي القدسية عن خسارات أخرى كان من أهمها في مخيم اليرموك الحياة الثقافية ومرتكزاتها.

تجربتي هناك ابتدأت مع الشاعر والتشكيلي الراحل "الحَكَم النعيمي" (عرّفني إليه الصديق الشاعر وائل سعد الدين) ومنه إلى "غسان شهابي" صاحب دار نشر "الشجرة"، حيث عمل الحَكم في تصميم الأغلفة والإخراج الداخلي، وكان بارعاً في ذلك. لا يمكن لشيء في تلك المرحلة إلا أن يتقاطع مع الحكم؛ أنت تعرف الحكم فأنت تعرف مخيم اليرموك! خلال دراسته في المرحلة الثانوية اعتُقل بتهمة حرق العلم الأميركي رفضاً لمشاركة "الجيش السوري" إلى جانب القوات الأميركية في حرب الخليج الثانية، ولطالما حدثني عن سِنِيّ سجنه التي تنقل خلالها بين أفرع أمنية وسجون من بينها سجن المزة الذي جمعه بصلاح جديد بحسب ما أذكر من حديثه. حين أنهى الحَكم سنوات سجنه ليجد أميركا قد عادت عدواً من جديد وأصبح حرق العلم الأميركي طقساً وطنياً في المناسبات التي يحتفل فيها البعث بقضاياه المركزية (المزعومة) وعلى رأسها القضية الفلسطينية! كان ذلك كافياً ليكفر بأي حقيقة في تلك البلاد الزائفة، حارقاً أو باقراً لوحاته الرائعة عدة مرات ليحرمنا منها، إلا النزر من الناجيات تناهبها بعض "الأصحاب" في غازي عينتاب التركية كما وردني. ليموت الحكم بلا ريشة ولا مخيم ولا أصدقاء... وحيداً في باريس.

دار الشجرة والشهابي 

أما دار الشجرة لصاحبها غسان الشهابي فاختصت الذاكرة الفلسطينية وتوثيق البلدات المخلاة من سكانها والقرى التي احتلت وقامت على أرضها المستوطنات، في شغل شاغل لا يلهيه عنه شيء حول واجبه كفلسطيني همه الأقدس هو العودة إلى فلسطين، وكانت كلمتا (عائدون، صامدون) المسترخيتان على الجدار المجاور لمقر الدار عنواناً تلقائياً لمشروعه الوطني.

احتضن مكتب الدار والحجرة الداخلية لمكتبتها الكثير من النقاشات للكثير من المثقفين، ولطالما صمّت جدرانها الآذان عن أحاديثنا السرية حول البعث ونظامه وعمالته. جاء موقف غسان واضحاً لا لبس فيه مع انطلاقة الثورة السورية، كالكثير من الفلسطينيين الذي كانوا على قناعة بأن الطريق إلى فلسطين لن يكون مفتوحاً في يوم تحت حكم الأنظمة العربية العميلة. اتخذ صف الناس فساند ودعم المهجرين الذي اكتظ بهم المخيم منذ نهاية 2011، وبذل من ماله وجهده من أجلهم. لكن الوقت لن يطول على قامة فلسطينية من أبناء المخيم تتخذ القرار الأصعب فاغتالته رصاصة القناص أثناء دخوله، حاملاً بسيارته الخبز، إلى أهله في المخيم الحزين في مطلع 2013.

المعالم الثقافية في المخيم لا تكاد تُحصى، فما من حارة إلا وفيها مكتبة أو منتدى، بعضها شخصي، وبعضها خاص، وبعضها تابع للفصائل الفلسطينية، غير أنها جميعا لا تخلو من نشاطات وزائرين

ساهم غسان في رسم الهوية الثقافية لمخيم اليرموك إلى جانب كثيرين كسليم رشيد (أبو شادي) وأخيه فتحي (أبو علي). إذا سألت عن أبي شادي في مخيم اليرموك فهذا يعني أنك تسأل عن مكتبة الرشيد التي أُسست في المخيم عام 1973. حين سألت صاحبها عن المكتبة ونشأتها قال: "إن الإجابة عن هذه المرحلة يطول وربما يحتاج إلى متسع من الوقت والتدوين"، ومعه حقّ في ذلك، فنحن نتكلم عن مرحلة تحولات في النضال الفلسطيني من جهة ومرحلة تحول في التصور عن مخيم اليرموك كمكان أصبح لإقامة مديدة بعد 25 سنة من النكبة (أي في وقت تأسيس المكتبة). يقول أبو شادي:

"كان الهدف الرئيسي، بداية، نشر وتعميم الثقافة الوطنية الفلسطينية والعربية التقدمية والثقافة الاشتراكية، ثقافة السلام والعدالة النسبية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والإنسانية".

يحسب لمكتبة الرشيد تسويق "الأدب السوفييتي" عن دار "مير" ودار "التقدم". وخلال حديث مع الإعلامي الفلسطيني أسامة حميد ذات مرة، قال لي إن مكتبة الرشيد هي التي فتحت أبواب المخيم للكتّاب الفلسطينيين، حتى البارزين منهم. لقد زُحزِح جبل من مكانه حين انتقل أبو شادي وأبو علي للإقامة خارج المخيم وسوريا وحين فرغت مكتبة الرشيد من محتوياتها، وربما دُمّرت عن بكرتها.

المكتبات ويرموك الحرائق

المعالم الثقافية في المخيم لا تكاد تُحصى، فما من حارة إلا وفيها مكتبة أو منتدى، بعضها شخصي، وبعضها خاص، وبعضها تابع للفصائل الفلسطينية، غير أنها جميعا لا تخلو من نشاطات وزائرين. كان من ذلك مكتبة الطلاب الحديثة التي أسسها الحاج محمود الصمادي (أبو سميح) ومكتبته الخاصة معروفة كذلك، ومنها مكتبة ودار القدس لـ "الطلوزي" التي اهتمت بالشأن الطبي والصحي، ومكتبة عربي عواد، ومكتبة فتحي الشقاقي التي نقلت بعد وفاته إلى مركز القدس الثقافي على شارع الـ15، وكذلك مكتبة المركز الثقافي العربي عند دوار فلسطين، ومركز دعم الشباب الذي أسسته "الأونروا" بدعم من الاتحاد الأوروبي، وأيضاُ مكتبة الاستاذ فوزي حميد المنزلية التي كانت مشرعة للزوار، وقد أسس أيضاً دار الكرامة للنشر؛ بقي الأستاذ فوزي حميد في مخيم اليرموك أثناء حصاره وكان له دور مهم في تنظيم الحالة المدنية، وأذكر أنه ترأس المجلس الأهلي في المخيم في فترة الحصار.

في الفترة التي عملت فيها طبيباً ميدانياً في مشفى فلسطين في المخيم، ساقتني الأقدار، عبر بعض الأصدقاء، إلى مكتبة الدكتور نبيل أبو عمشة، وهي مكتبة ضخمة تطاول رفوفها السقف وكأنها تريد تجاوزه، كما تملأ الكتب الزوايا وسطوح طاولات عديدة حتى لا تكاد تجد مكاناً لتقرأ فيه سوى حيز محدود لطاولة وكرسي. في ذلك الوقت قرأت كتباً عديدة فيها، غير أني لم أعد أستطيع العودة إلى المخيم في زحمة الصراع فيه. انتُهكت المكتبة ونُهبت كتبها وبيعت تحت "جسر الرئيس" في دمشق. لعل ذلك أفضل من أن تحرق؛ ذات مرة رأيت مجموعة شباب يتحلقون حول نار في "سطل" طالبين الدفء، فإذا هم يلقمون نارهم كتباً وقد عزّ الوقود والحطب! أنقذت من بين أيديهم مجموعة كتب منها الجزء الثاني من كتاب العمدة لابن رشيق لكن الحظ لم يحالف الجزء الأول.

وعلى الرغم من أنها لم تكن مكتبة كبيرة لكنها تركت أثراً كبيراً في نفسي؛ برفقة أبيه وأخيه محمد دخلت غرفة الدكتور أحمد الحسن بعد أيام من استشهاده أمام مشفى فلسطين بقذيفة أطلقتها قوات النظام السوري. أخذت عدداً من الكتب الطبية وروايتين، وقبيل خروجي من المخيم وضعتها مع مجموعة من المقتنيات في كرتونة وخبأتها في سقيفة بيت أحد الأصدقاء. ما زلت إلى الآن أتخيل الكرتونة في مكانها يكسوها الغبار وأني أفتحها ذات يوم وأبكي كما بكيت حين وضعتها.

ومن المكتبات الخاصة أيضاً مكتبة صديقي عبد الرحمن شاهين، وقد رأيتها في الصور فقط، حيث تعمقت علاقتي بعبد الرحمن بعد نزوحنا إلى "يلدا" على إثر سيطرة النصرة وداعش على المخيم تباعاً، ولطالما قلّبنا صورها على حاسوبه الشخصي متحسرين على ما فيها. كنا حينها قد أسسنا منتدى "دارميسك" في مركز "وتد" في يلدا، وجمعنا فيه من الكتب عدداً لا بأس فيه، وكلما شاهدنا صور مكتبة عبد الرحمن أحسسنا أن ما لدينا في المنتدى ليس إلا غَرفة من بحر. أسأل عبد الرحمن الآن عن المكتبة فيجيب: "تحت البيت"؛ البيت الذي أصبح ركاماً بفعل صاروخ روسي أثيم.

زخر مخيم اليرموك حتى أثناء الحصار بالكثير من الطاقات الشابة الواعدة، أسسوا مراكز تنموية وتعليمية وتدريبية، وقاوموا الحصار بالكلمة والابتسامة؛ إنها طاقة المقاومة العنيدة على الكسر. كان منهم أحمد كوسا وحسان حسان وخالد بكراوي وعبد الله الخطيب ومنير الخطيب... والقائمة تطول بالفعل عن الإحاطة بهم، ولكن أكثرهم قضى برصاص النظام وقذائفه أو تحت التعذيب ليبقوا في ذاكرة القلة الناجية بريقاً للمخيم الذي يكاد يصبح أثراً بعد عين لينقلوه كالإرث إلى الجيل القادم كما نقل أسلافهم ذاكرة فلسطين إليهم.