الأول

2021.01.11 | 00:02 دمشق

258299_1_1560764317.png
+A
حجم الخط
-A

 كان المرحوم فاضل السباعي يشكو كثيرًا من جفاء الإعلام الرسمي له، والجفاء نعمة، فهو أكرم من النبذ والاعتقال والقتل، وقد اعتقل من أجل قصة بريئة أسبوعين، فخط ذلكما الأسبوعان في قلبه خطًا لا يمحى، وألمًا لا يسلى.

 وكانت له قصة جميلة نشرها في مجلة العربي بعنوان: الأول، وفي القصة يتقدم متسابق إلى وظيفة رسمية، فتمتحن اللجنة معارفه، ويتبين لها أنه جمع فضائل المعرفة في العلوم كلها، الحساب واللغة والشعر وعلم الاجتماع حتى السياسة، لكنه ليس مواليًا، فكأنه في يوم الحساب ومشرك غير موحد. وهو مشابه لشخصية طه الشاذلي في رواية عمارة يعقوبيان، بميزان الولاء والعرق والطبقة، قد تحوّل طه الشاذلي إلى الجماعات السرية. يرسب المتسابق، ويعاقب بسلب حريته، فعاقبة الرسوب نعمة في بلاد الطغيان.

 نظرت في ذكرياتي في المرحلة الابتدائية، فوجدت ابنًا لمدير الناحية، كان الأول في الصف الثالث، وفي الرابع كان ابن المدير هو الأول، وكانا تلميذين نجيبين لكنهما لم يستحقا منزلة الأول، وكانا أوسم من بقية التلاميذ لأن أصحاب المناصب يتزوجون الجميلات فيحسن نسلهم وتجمل ذريتهم، وكانا أنهد منّا وأزين زيّا وأجمل لمة وشعرًا، وكانت أمّهاتهما تعينهما على أداء الوظائف، ولم تكن أمهاتنا كذلك. وفي امتحان جدول الضرب، ولم يكن أصعب عندنا من جدول الضرب الذي لم يكن "يتدفق" إلا بالعصي، كان الامتحان علنيًا ويشبه العبور على الصراط، وكان التلميذان يكرّمان ويميزان في الامتحان على طريقة النكتة الشهيرة: للقريب سؤال: ما اسم بلد المليون شهيد؟ وللبعيد سؤال مفحم: اذكر أسماء الشهداء المليون، فلجنة الضرب من المعلمين المسلحة بالعصي كانت تسألهما عن حاصل ضرب الأرقام الصغيرة بعضها ببعض، تلك الأرقام التي لم تكن تعلّمت السباحة في جدول الضرب، فيسهل على التلميذين صيد السمك باليد من غير شبك، مثل: اثنان ضرب اثنان، ثلاثة ضرب واحد، ثلاثة ضرب ثلاثة.

 قصة باسل الأسد مشهورة مع الفارس عدنان قصار، لأن ابن الطيبين سبق ابن الأكرمين ونافسه على منزلة الأول، فكان أن اعتقل مدة أطول من المدة التي قضاها العفريت صخر الجني في قمقم الحكاية، ثم إنَّ الله قبض الأمانة، فعاش عدنان قصار ومات الفائز بالمنصب الأول، وعاش حصانه أيضا.

ما زال بشار الأسد مقدمًا ومميزًا ومشرّفًا ومدللًا لأن لجنة جدول الضرب العالمية تريده الأول

 ثم وجد والده أن يجعل أخاه الثاني أولاً على سوريا كلها، فغيّرت لجنة جدول الضرب الدستور من أجله، فسهلت له الأسئلة، وصعبت على الشعب الحياة حتى أمست ضربا على الأعناق وشدا في الوثاق.

وما زال بشار الأسد مقدمًا ومميزًا ومشرّفًا ومدللًا لأن لجنة جدول الضرب العالمية تريده الأول، فهو يقوم بما تريده من ضرب للشعب السوري وتقسيم له وضرْح في غيابات الجُبّ، فهو من فرسان مالطا، وجماعة فرسان الهيكل كما ذكرت صحيفة الحياة اللندنية.

 وإذا كان بشار الأسد يعرف جدول الضرب والقسمة والجمع والطرح، فإن عبد الفتاح السيسي أقل موهبة منه وعقلًا ولساناً وحجة، واختير ليكون الأول في مصر، وقد صدّقا أنهما من الأوائل والمتفوقين، والفرق بينهما هو أن الأسد لم يقدم امتحانًا شفاهيًا أمام لجنة من شعبه أو أمام مذيع، فهما لا يجريان مقابلات إلا مع فضائيات الخواجات، روسية أو أميركية لتسميع جدول الضرب، بالأسئلة السهلة، ذلك أن جمهورهما الحقيقي هناك، وهما يطّلعان على الأسئلة، ويحفظان الأجوبة، وفي المسابقات الأميركية التي يضرب بها المثل في الديمقراطية يذاكر المرشح الرئاسي كثيرًا في مسابقات المناظرة، بعد أن تتوقع له لجنة من المختصين كل الأسئلة المحتملة، والتي لا تزال في دولة السيسي ثقوب تتسلل منها بعض الحقائق الصغيرة متناثرة، فهو مثلًا يؤدي دورًا في برنامج "أنت تسأل والرئيس يجيب" كل فترة، أو قد يلتقي بلجان مؤتمر الشباب فيؤدون مسرحيات يظهر فيها الرئيس حافظًا لجدول الضرب والتقسيم طبعًا، فيصفقون له وكأنه لقمان حكمةً والأحنف حلمًا والقعقاع سيفًا.

يجمع العلماء أن أسّ نهضة الدول هو التعليم، وقد فسد التعليم فسادا كبيرا، كأن ليس في البلاد سوى تلميذ واحد

لقد انقسم الشعب في ظلالهما النارية إلى شعبين أو شعوب، بعد أن جرى تنصيبهما ببرنامج "انقلاب عسكري" بعد "فرمتة"، ثم رأينا السيسي تلك المرة الوحيدة يسيل عرقًا ويقطر مرقاً في برنامج ستون دقيقة الشهير، فشمتنا بالرئيس الذي لا يجرؤ أحد أن يسأله، وصفقنا للمذيع الشجاع، الذي استطاع أن يفحم الرئيس، كما فعل الباقلاني مع ملك الروم يوماً، وكان ذلك أحد أهداف البرنامج، فأحسَّ السيسي كأن لجنة الإدارة قد خانته، وصعبت عليه جدول الضرب، ومع ذلك بقي الأول على دفعته.

 يجمع العلماء أن أسّ نهضة الدول هو التعليم، وقد فسد التعليم فساداً كبيراً، كأنْ ليس في البلاد سوى تلميذ واحد، أنجبته أمه ورضع لبن العصافير، ولا يمشي إلا على السجاد الأحمر خوفاً من أن يسقط ويصيبه أذى، ولا يجرؤ أحد على سؤاله، وتصفق له أمته على ضحكاته وكأنها معجزات باهرات، وتسهر على راحة ولدها الوحيد وأمنه وسلامته، وضحّت بمليون شهيد حتى يبقى الأول على زملائه.. في المقبرة.