الأمّية الدينية كقوة دفع للتخلف السياسي والاستبداد

2020.06.05 | 01:37 دمشق

fc365b3e-499d-467b-8663-f3c94139e43b.jpg
+A
حجم الخط
-A

الصورة التي ينطوي عليها الصراع بين بشار الأسد ورامي مخلوف، تمثّل أبرز تداعيات التفاهة السياسية التي تضرب الاجتماع السياسي، يضاف إليها دخول عائلة جديدة على الصراع العائلي الذي يختزل الدولة في العالم العربي، بطموحات عائلة زوجة بشار الأسد أسماء الاخرس. تصبح الدولة وسياساتها وثرواتها وعسكرها بيادق في صراعات العائلات، ينحدر المستوى السياسي من الصراع الطبقي إلى الصراع الطائفي أو القبلي العشائري إلى صراع العائلة الصغرى.

وفي الصراع تستخدم سرديات كثيرة من أحاديث "منزهة"، واضفاء طبيعة مقدسة للحروب المخاضة، وهي ترجمة بسيطة وصغيرة لمشروع أكبر مثلاً، كحال إضفاء شيء من القداسة على هذه المعارك الدولية، كواقع الدخول الروسي إلى سوريا والذي وصفته البطريركية الروسية بالحرب المقدسة، والهادفة لحماية المسيحيين في الشرق.

تلك الحروب المقدسة، ستكون عبارة تجسيدية عن صراعات الأمم لسنوات طويلة مستبقلاً، دول ستحمي "السنة" وإيران تحمي الشيعة، وروسيا تحمي المسيحيين والعلويين. في مسار ينهي أي تطور فكري، ثقافي، سياسي، في هذه المجتمعات. وهذا مسار انحداري لا يقف عند حدود سوريا، بل يجسّد واقع منطقة الشرق الأوسط بكليتها، لا بل العالم أجمع، في ضوء إعادة إحياء الحروب العنصرية، في الولايات المتحدة الأميركية نفسها على غرار ما حصل في الأيام الماضية بعد تنامي العنصرية البيضاء ضد أصحاب البشرة السمراء، والصراع نفسه يجسّده ناريندرا دامودارداس مودي بين الهندوس والمسلمين، والذي يمتد إلى الصين ومواجهة الإيغورن وينطوي على مشاريع فرز وتقسيم وتضييق على صعيد العالم أجمع.

في لبنان أيضاً تتلاقى هذه النزعات "التصغيرية" العنصرية مع النزعة الدولية التي أصبحت تطفو على السطح، كل ما كان قائماً في سنوات الانفتاح الأوروبي، يؤول إلى زوال، وتحصد نتائج ضيق الأفق على الصعيد العالمي أجمع، وتنعكس ارتداداته في الشرق الأوسط. كل ذلك نتاج للانحدار السياسي، والبحث عن أسبابه مسألة معقدة. في الواقع العربي والإسلامي، شكل الربيع العربي بارقة أمل أو إشارة لمتغيرات حقيقية وفاعلة، تلك المحاولة الجدية الوحيدة التي أفشلت، ليتضح أن ما بعد إفشالها تراجع مفهوم التطور السياسي.

ما تعيشه الدول العربية حالياً، هو حالة ضياع ليس فيها ديمقراطية أو ليبرالية، يمكن وصفها بأنها في عصر ما قبل الحداثة، بخلاف الغرب الذي استنفد هذه الديمقراطية ويخوض في تجارب جديدة تتصدرها حالياً العنصريات، لكنها حتماً ستنتج متغيراً جوهرياً بعد سنوات. بينما الديمقراطية في منطقتنا لا تزال حساسة، وهناك حاجة ضرورية لها. أزمة التخلف على مختلف المستويات، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، يظهر أنه من الصعب قياس واقع هذه البلدان مع الغرب. فالحرية التي تعتبر مسألة بديهية لدى الغرب، لا تزال حلماً لشعوب هذه المجتمعات. ولا بد من وجود كتلة عربية، متنوعة تضع هدف الحرية والديمقراطية، بشكل أساسي أمامها، لتطوير الأنظمة السياسية، كي تكون قادرة على اللحاق بما يجري في العالم المعاصر.

المشكلة الكبرى في منطقتنا مع الدين السياسي الذي يؤثر على التطلعات نحو الحرية والديمقراطية، فبرزت الفئات المتطرفة التي تتكلم باسم الدين، سعياً للعودة إلى أزمان غابرة، بدون تقديم أي فكرة لتحديث المجتمع، وحولت المتدينين إلى أناس متعصبين. وغالب الحركات الإسلامية وقعت في التطرف أو الشعبوية وبالتالي كان لهذا تأثير سلبي على الواقع السياسي في بلادنا. يقود ذلك إلى ضرورة البحث في عمق المسألة الاجتماعية بهذه المنطقة التي يتغلّب فيها الظلم والاحتكار ولا يوجد فيها توزيع عادل للثروات، بحيث لا يبقى هناك فئات ناقمة على السياسة والمجتمع. لأن هذه النقمة هي التي تدفع الناس إلى اللجوء للدين والتطرف بوصفهما الخلاص. وهكذا أنشأ التطرف الديني، لجهة اقناع النفس بأن مصير الإنسان ليس مرتبطاً بهذه الارض بل مرتبط بالسماء. وكان ذلك على يد معلمين أشاعوا هذه الفكرة وجعلوا من المؤمنين متطرفين، وأفراداً يمارسون كل أشكال العنف لاعتقادهم أنهم بذلك يتقربون إلى الله، ويحققون مطالبهم التي عجزت الوسائل الطبيعية عن تلبيتها.

يؤسس الجهل والفقر إلى نوع من استبعاد فئات كثيرة من الناس، حاولت أن تكون في صلب صناعة القرار، ولكنها أبعدت عن ذلك، وهذا ما أدى إلى انتشار الظاهرة الدينية، أما لو كانت الأنظمة السياسية الموجودة هي أنظمة ديمقراطية لكان أمكن الفصل بين الدين والدولة، لأنه في حالة المجتمعات المقهورة تلجأ الناس إلى فكرة الخلاص، وهذا الخلاص يتخذ من الدين مدخلاً، مقابل استغلال فكرة التطرف لأهداف سياسية. تعتبر أن المجتمع فاسد وجاهلي ولا بد من أسلمته مجدداً. وبرزت هذه الأحزاب والقوى عندما وجدت مناخاً مؤاتياً لها، ووجدت شعبية لها ناتجة عن اليأس والقنوط، تجاه الأوضاع السياسية عامة وتجاه عملية التقدم.

وقع العرب في صراع بين العسكر والدين، وهو صراع بين استبدادين. ويوجد فراغ هائل لدى أصحاب المشروعين، إذ يفتقدان إلى أي مشروع وطني جامع، وبالتالي سيطر العسكر الذي لم يكن هناك أفق لكسر قضبته إلا من خلال الدين. ولذلك تجلى الصراع بين الدين والعسكر. وبصورة عامة فإن هذه الشعوب بحاجة إلى درجة عالية من الوعي السياسي، والمعرفي، لأن نسبة عالية، من الأميّة لا تزال في هذا المجتمع، ما يدفع لإدراك أثر ذلك التخلّف السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لذلك لا بد من تجديد الوعي انطلاقاً من تعزيز ثقافة السلم، لتمهيد الانتقال من هذه المرحلة، إلى مرحلة التنمية ومرحلة التكامل السياسي بين الأنظمة العربية السياسية وهذا ما يرفع من شأن الواقع الاجتماعي.

اقحام الدين في السياسة يشوهه ويشوه السياسة، لا بد من قيام الدولة المدنية، فالعلمانية ليست عدوّة للدين، وكل ما في الأمر أن العلمانية تفصل بين مهمة الدين ومهمة الدولة. وإذا ما حققنا هذا الفصل، نكون قد خطونا خطوات واسعة، نحو التقدم والإصلاح. وليس صحيحاً أن الفصل بين السياسة والدين، يؤدي إلى الإساءة للدين بل يصحح الإثنين معا. لأن ما هو قائم الآن ليس تديناً حقيقياً وإنما هو تدين حزبي أو فئوي، أو عنصري.

يتباهى لبنان مثلاً بأنه مثال الديمقراطية في الشرق الأوسط، بينما هي غير موجودة إلا شكلاً، والحاكم هو النظام الطائفي وتقاسم الحصص، على المستوى السياسي والاقتصادي، وكلما كان هناك خطوة للخروج من هذا الواقع، نرى أن النظام السياسي يفتعل مشكلة تعيد إنتاج الصراع الطائفي التعصبي أو العنصري الذي يهدف إلى تكريس واقع الانقسام خارج أطر الدولة ومؤسساتها. وفي لبنان حالياً طروحات كثيرة، يعتبر منظروها أنها مستلهمة من تجربة أمر واقع تكرس في العراق وسوريا، فيه صراع عائلي أو طائفي أو عشائري عمل على تقسيم جغرافية الدولتين إلى جماعات متنوعة ومتفرقة لها كياناتها، فتتنامى في لبنان نزعات فيدرالية.

وتلك النزعة نتاج لمسار سياسي عام بدأ مع دخول إيران إلى العراق وسوريا، تلاه الدخول الروسي في حربه المقدسة لحماية المسيحيين في الشرق، وتلاقيه أصوات لبنانية كثيرة تضرب المواطنة والعروبة والارتباط بالعرب مثلاً وبالدولة الديمقراطية وركائزها لصالح نزعات "مشرقية" سواء بتعبير التحالف المشرقي أو السوق المشرقية، وهي تلتقي جوهرياً مع ما تحقق من فرز في سوريا.