icon
التغطية الحية

الأغنية المسيسة بين النضال والواقعية..

2021.01.23 | 17:31 دمشق

16675image1-1180x677_d.jpg
إسطنبول - فارس الذهبي
+A
حجم الخط
-A

فتحت الوفاة المفاجئة للموسيقار اللبناني الياس الرحباني الباب واسعاً لمناقشة إرثه الفني، وهو تماماً ما يُفعل عادة في شؤون رحيل الفنانين في الشرق، حيث تبقى نجاحاتهم وهفواتهم طي الترقب حتى تحين ساعة رحيل الفنان لتفتح ملفاته التي كان حري بها أن تناقش علانية في حياة ذلك الفنان أو ذاك كي يستطيع الدفاع عن نفسه أو المنافحة عن فكره..

الياس الرحباني ثالث الأخوين الرحابنة العظام في لبنان، وهو أكثرهم إثارة للجدل في تأرجحه بين تراثهم الموسيقي الكلاسيكي وبين تجديده الشبابي الجارح الذي حاول به وعبره أن ينقل الموسيقا اللبنانية من برّ محلية الشرق، إلى العالمية فأسس مع سامي كلارك وغيره من الفنانين موسيقا غربية بكلمة عربية، وأسهم في الموسيقا التصويرية لأهم الأفلام العربية في السبعينات والتي لا تزال تسمع حتى اليوم، ولكن الياس الرحباني أثار عاصفة كبيرة من الغبار حينما تذكر معجبوه وهم ينقبون في أرشيفه الموسيقي الضخم الذي ينوف عن 2500 أغنية ولحن، حينما اكتشفوا أنه لحن أناشيد ثلاثة، كان لها أثر بشكل كبير في المنازعات في الشرق الأوسط، أول تلك الأناشيد كان نشيد (حزب البعث) الذي كتب كلماته الشاعر السوري سليمان العيسى و لحنه الياس الرحباني في مطلع الستينات، والنشيد يحمل ما يحمله من قيم البروليتارية الاشتراكية، التي كان حزب البعث العربي الاشتراكي ينادي بها وطبعاً كان الفلاحون والعمال هم من أوائل ضحاياه، لكن نشيد البعث الذي ينتمي في أدبياته المستمدة من مبادئ الحزب الذي أسسه ميشيل عفلق وصلاح بيطار، ينتمي إلى اليسار بشكل من الأشكال، لا يتماشى مع نشيد الكتائب اللبنانية التي تنتمي في فكرها وجوهر عملها إلى اليمين اللبناني الانعزالي المتدين دون أن تخفي كلمات النشيد الأبعاد الدينية في ذلك النشيد، ووصولاً إلى نشيد الفرنكوفونية الشهير الذي لحنه الياس الرحباني في 2001 وقدم أمام 52 رئيس دولة تنادي بالأفكار الفرنكوفونية المستمدة من قيم الثورة الفرنسية التي بنيت على حقوق الإنسان ومبادئ الثورة في العلمانية والإخوة والمساواة ...

لينتقل النشيد الذي أداه الياس الرحباني من اليسار إلى اليمين وصولاً إلى الاعتدال العالمي.. وكأن برحلة الياس مع الأناشيد الوطنية هي رحلته مع وعيه ونضوجه الفكري، من مرحلة تصديق الأكاذيب القومية وحتى الوقوع في فخ المحازبة الأهلية إلى الانشراح العالمي الممتد عبر اللحن والموسيقا في بحر الفرنكوفونية الواسع..

لم يكن هذا هو باع الياس الرحباني الوحيد في النوسان بين السياسة والموسيقا، وإنما سبق للرجل أن قام بتلحين أناشيد قومية في فترة الحرب الأهلية وما بعدها لفصائل عسكرية وسياسية من مثل نشيد فصيل المرابطون الناصري (إبراهيم قليلات) ونشيد القوات اللبنانية (سمير جعجع)، بل ويتحدث الإعلامي والشاعر اللبناني جوزيف عيساوي عن مدائح نبوية كان الموسيقار اللبناني الياس الرحباني قد قام بتلحينها.. ولكننا لم نجدها في الشبكة العنكبوتية..

هل كانت موسيقاه بندقية للآجار، أم هذا هو حال الفنان في الشرق.. وكيف لموسيقار استطاع تأليف العشرات من الأغاني الرقيقة التي تمتاز بحساسية عالية من أن يزج بألحانه في أناشيد لأحزاب شمولية عسكرتارية مميتة..؟ حيث لا يمول الفن إلا من قبل جهات سياسية.. وهل من الممكن أن نقرأ الياس الرحباني بناء على ألحانه السياسية، أم بمعزل عنها؟.

 أم أن هذا العمل الموسيقي هو عمل وفقط، وهل تعتبر حالة الياس الرحباني استثناءً في الوسط الفني العربي والعالمي؟ إذ تحدثنا الوثائق عن أكثر من فنان انقلب جذرياً وليس فنياً فقط في مواقفه السياسية والموسيقية، أم كلثوم وعبد الوهاب، كلاهما غنيا للملك فاروق وكانا من أشد أدواته الفنية قوة في مصر، ولكنهما عادا وانخرطا فنياً في خدمة ثورة يوليو وقادة مجلس قيادة الثورة.

في السنوات السابقة أدت تصريحات زياد الرحباني وهو الموسيقي اللبناني الشهير، في مساندته لمواقف حزب الله إبان دخوله سوريا ومشاركته في الحرب إلى جانب القوات النظامية، أدت تلك التصريحات إلى حالة هياج شعبي ضده وخصوصاً من قبل جمهوره الذي استنكر اصفطافه السياسي إلى جانب فريق يحارب ويقتل من يطالب بالحرية...

مع رحيل الياس الرحباني تتكشف تفاصيل حياته المنسية التي تناثرت عبر آلاف صفحات النوتة، حيث كثير منها سيبقى خالداً ومعظم أعماله المسيسة التي تقاضى أجراً لقاء الترويج سياسياً لها، ستكون طي النسيان، فإن تقاضى أجراً على تلحينه نشيد البعث وهو الحزب الاشتراكي البروليتاري، فتلك كارثة من حزب العمال والفلاحين أن يدفع لقاء نشيده الرسمي، بينما يقبع منتسبوه في الفقر، وإن لم يتقاضَ فهو يتبرع بعمله الأسمى من الأموال في سبيل تقدم حزب شمولي سيقضي على بلدين عربيين هما العراق وسوريا ...إنها معادلة من يتقرب من السلطان، فلا هو في مأمن منه ولا هو في غنى عنه.. ففي كلتا الحالتين هو هالك.