icon
التغطية الحية

الأسد يحوّل أحياء سوريا إلى مقابر.. عن فيلم "منازل بلا أبواب" لـ آفو كابرئليان

2021.06.17 | 14:54 دمشق

mnazl_bla_abwab_tlfwzywn_swrya.jpg
ضاهر عيطة
+A
حجم الخط
-A

منذ أن انطلقت أحداث الثورة السورية، والكثير من الفنون تستقي مادتها من هول الجرائم التي أحدثها التنظيم الأسدي وتبعاته من التنظيمات الإرهابية، لتبقى تلك الجرائم حاضرة في ذاكرة الضمير الجمعي، وينظر إليها، بوصفها مجازر شكلت لحظات مفصلية في سيرورة التاريخ السوري وفي بيئة تركيبته السكانية الغنية بتنوعاتها وتمايزها، ما ألهم الفنون على مختلف أنواعها وأجناسها للوقوف على تلك الأحداث المفصلية التي صبغتها يد الأسد بلون الدم والعتمة، كما في الفيلم الوثائقي "منازل بلا أبواب" والذي تم إنتاجه سنة 2015.

يستعرض مخرج الفيلم السوري، الأرمني الأصل "آفو كابرئليان"، حياة عائلة أرمنية في "حي الميدان" بمدينة حلب، ببنيانه وتاريخه وتفاصيله الحميمية، وهو الحي الذي كان ملجأً لآلاف الأرمن المهجّرين من أراضيهم قبل عقود عديدة، مبينًا حجم الخراب والدمار والتهجير الذي تعرّض له هذا الحي على يد التنظيم الأسدي منذ انطلاق الثورة السورية قبل عشر سنين.

الهجرة كخيار مصيري

من خلال الفيلم نطّلع على آلية إفراغ الناس من منازلهم شيئاً فشيئاً، حتى استحالت المنازل إلى أشبه ما تكون بأطلال مهجورة تتفجع على مصير أناس كانوا قد اقتلعوا من جذورهم

صور المخرج كابرئليان من شرفة منزله الواقع في ذلك الحي، وبواسطة كاميرا صغيرة متواضعة، مسيرة حياة عائلة من العوائل الأرمنية التي طالها الخراب والدمار، ولم تجد من خلاص ونجاة إلا بأن تحزم حقائبها قاصدةً الهجرة إلى بيروت. وقد سعى المخرج في فيلمه إلى توثيق العديد من عمليات التهجير لسكان الحي بأدق التفاصيل، كما بيّن كيف جرت المذابح وعمليات القتل، التي طالت أرواح العديد من سكانه، ما دفع من بقوا أحياء إلى الفرار من هذا الحي بعد أن استحال إلى مقبرة لا تمتلك إلا أن تدفن في أعماقها من يصر على البقاء فيه.

ومن خلال رصد الكاميرا لمصير أفراد واحدة من تلك العوائل الأرمنية، نطلع على جميع تلك السرديات المفجعة، وعن الكيفية التي جرى فيها إفراغ الناس من منازلهم شيئاً فشيئاً، حتى استحالت المنازل إلى أشبه ما تكون بأطلال مهجورة تتفجع على مصير أناس كانوا قد اقتلعوا من جذورهم، من جراء قصف البراميل والصواريخ والقذائف من جهة، والخوف من اقتراب تنظيم "داعش" من جهة أخرى.

 

 

مشاهد الخراب والرعب

ففي بداية الفيلم، ترصد الكاميرا أناساً يقفون على شرفات منازلهم، ومن على تلك الشرفات، كانوا يبصرون على مقربة منهم، بيوتاً تحترق بفعل غارات الطائرات. وفي الوقت نفسه كانت تظهر في الكادر الواحد، عدة بيوت نزعت عنها الأبواب والنوافذ وتركت على حالها لتعبث بها الريح. ولا يكاد حال شوارع الحي يختلف كثيراً عن بيوتها، فهي أيضاً خاوية وشبه مهجورة، تقطع مساراتها ودروبها إطارات سوداء وحواجز أمنية، أنزلت الرعب في أرجاء المكان.

الحيّ بمعظمه غدا فريسة للخواء، تلتهمه وحشة العتمة عقب رحيل الجنس البشري عنه، والذي ما عاد يدلل عليه سوى عبور سيارة كانت تحمل تابوتاً وقد علقت عليها صورة لامرأة متوفاة

في مجمل المشهدية البصرية والخلفية السردية ثمّة ما يوحي بذلك الرعب، ولا سيما أن الحيّ بمعظمه غدا فريسة للخواء، تلتهمه وحشة العتمة عقب رحيل الجنس البشري عنه، والذي ما عاد يدلل عليه سوى عبور سيارة كانت تحمل تابوتاً وقد علقت عليها صورة لامرأة متوفاة، أو ستائر لغرف بيوت كان أهلها يستظلون بها فيما سبق، غير أنها تركت في آخر المطاف على حالها لتعبث بها الريح، ما يجعلنا نستدرك أن جميع المصائر المطروحة والممكنة في هذا الحي، لا يمكن لها إلا أن تقود إلى مأساة مرعبة وسط خيارات تكاد تكون معدومة.

مجرد الإصرار على  البقاء في هذا الحي، ما عاد يعني إلا الموت والفناء، ولهذا كانت الهجرة والرحيل عنه هو الخيار الوحيد لأبناء الحي، ما يشي بتكرار مأساة الشعب الأرمني التي جرت قبل عقود طويلة، لتمتزج هذه المرة مع مأساة الشعب السوري، في رحلة الشتات والمذابح.  

تفاصيل دقيقة وقريبة

ما يميز فيلم "منازل بلا أبواب" أن كاميرا آفوا كابرئليان، كانت قريبة جداً من الأحداث، وأمكن لها التقاط أدق تفاصيل الحي، وهو غارق في الفجيعة، وقد استحالت بيوته إلى شوارع، وشوارعه إلى دروب خاوية، طغت عليها حالة من الضيق والاختناق، خصوصاً أن العتمة كانت تستولي على جميع الأرجاء في المشاهد الليلية، في حين تظهر كتل من لهيب النار، وهي تلتهم البيوت القريبة جدًا من عين الكاميرا، أو من عين نافذة واحدًا من البيوت، وهي ترصد مجرى الأحداث، إلى حد أن وطأة الجحيم الجاثمة على فضاء المكان، ومن فيه، دفعتنا إلى التماهي مع ما يعرض أمامنا، وكأنّه ليس إلا جحيمًا يحاصرنا نحن، ويطبق على أنفاسنا إلى حد الاختناق. فنحن هنا أمام حي تكتسح حاراته أشباح الخراب والهلاك، وعلى مرأى من أبصار الكون، وهذا ما نقل إلينا وطأة الإحساس بالعدمية واللاجدوى، وعدم القدرة على فعل أي شيء سوى التفجع والذهول.

ربط الماضي بالحاضر

ومن الواضح أن المخرج تعمد ألا يضع حدوداً زمنية لفيلمه، حتى يبدو وكأنه زمن أبدي يربط بين الماضي والحاضر وصولًا إلى المستقبل. مستعيدًا بذلك تاريخ المذابح التي لحقت بالشعب الأرمني، وحريصًا على تجسيدها وكأنها مأساة تحيا من جديد. فملامح التهجير والقتل والتجويع الذي سبق أن عانته آلاف العائلات الأرمنية في تركيا، عادت لتتكرر، ولكن هذه المرة على يد العصابات الأسدية وأتباعها من سفاحي الأرض. وكان يتم ربط ماضي هذه المأساة بحاضرها، من خلال توظيف ألوان وأضواء، غالبًا ما كانت تتصارع مع العتمة والظلال المنبعثة عنها، محاولة تعميق الإحساس بأهوال هذا الخراب، ومدى سطوته، وهذا ما أغنى البنية السردية في سياق أحداث الفيلم، بحيث كانت خالية من الشروحات والتعليقات إلا فيما ندر، معتمدة على سردية اللقطات، وربما ما كان الغرض من ذلك إلا لتأخذ المشهدية البصرية على عاتقها رواية وسرد الحكايات بكامل عريها وواقعيتها.