الأسدية ليست نظاماً دكتاتورياً فقط...

2019.04.18 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم تكن فدوى سليمان أقلّ حماسة وثورية، من آلاء صالح "الكنداكة السودانية"، فكلتاهما ألهبتا حناجر الثوار، في حمص والخرطوم، وهم يصدحون بأناشيد الحرية في الساحات. ولم تختلف الثورة السورية عن الثورات العربية التي سبقتها (تونس ومصر)، ولا عن التي لحقتها مؤخراً في السودان والجزائر، فقد كانت ثورة سلمية بمطالب واضحة كعين الشمس، تنشد الكرامة والحرية وطالبت بالإصلاحات أولاً، وعندما لم يستجب النظام لمطالبها، رفع المتظاهرون شعار: الشعب يريد إسقاط النظام، الذي واجه الناسَ بالرصاص والاعتقال.

وزّع الثوار في ريف دمشق (داريّا والمعضمية) الورود والمياه على عناصر الجيش، ظانين أنه جيشهم الذي يحميهم ويدافع عنهم، لكن تلك الورود لم تمنع جيش النظام من الرد عليهم بالرصاص، وتكرر المشهد نفسه في حمص، وهي المدينة التي تعكس بتنوعها إلى حد ما التركيبة السكانية في سورية، (التي كانت وبالاً عليها فيما بعد) والتي شهدت اعتصاماً دعا إليه الثوار عصر يوم 18 نيسان 2011، وأنشدت فيه فدوى سليمان والساروت أغاني الثورة، لكن ما فعله النظام -متمثلاً بعناصر الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية- مع المتظاهرين في ساحة الساعة معروف للجميع: الرصاص مقابل الورود والحرية، وجرف الجثث إلى مكان مجهول.

لم تخلُ مدينة سورية تقريباً من المظاهرات السلمية، ففي مدينة حماة، في الأول من تموز 2011، احتشد مئات الآلاف في ساحاتها ينشدون مع القاشوش بصوت هادر: الشعب يريد إسقاط النظام، و(يالله ارحل يا بشار).

لم تخلُ مدينة سورية تقريباً من المظاهرات السلمية، ففي مدينة حماة، في الأول من تموز 2011، احتشد مئات الآلاف في ساحاتها ينشدون مع القاشوش بصوت هادر: الشعب يريد إسقاط النظام، و(يالله ارحل يا بشار)، تلك المظاهرة التي أرعبت النظام، وكانت سبباً لاقتلاع حنجرة القاشوش فيما بعد وقتله، وفي حلب حيث تجمع في ساحة جامعتها في أيار 2012 الآلاف، بالتزامن مع وجود بعثة المراقبين الدوليين، حيث رفعوا علم الثورة على مدخلها، وتكرر الأمر نفسه في معظم المدن السورية.

كان رد النظام واحداً: ارتكاب المجازر بأشكال مختلفة، على كامل الجغرافيا السورية الثائرة عليه تقريباً، وبصنوف الأسلحة المختلفة حتى الكيمياوي، وبعد مجيء الحليف الروسي، اُستخدمت حتى الصواريخ بعيدة المدى، وطائرات السوخوي الحديثة، حيث تم تجريب حوالي 300 صنف من الأسلحة الجديدة الروسية، باعتراف الروس أنفسهم، وعاثت الميليشيات التي أنشأتها إيران من كل شيعة العالم فساداً، بذريعة حماية المزارات المقدسة، أما في المعتقلات فلم يترك النظام وسيلة تعذيب إلا مارسها، حتى الحرق في الفرن (صيدنايا)، فضلاً عمّا ارتكبه بحق النساء، من جرائم لم تعرف البشرية لها مثيلاً، وهو الأمر الذي كان أحد العوامل في صناعة التطرف، ونجاح التنظيمات المتطرفة في الاستثمار في سورية.

من المؤكد أن الثورات اللاحقة التي تجري في هذه الأيام، في كل من السودان والجزائر، قد استلهمت الكثير من ثورات الربيع العربي التي سبقتها، ومنها الثورة السورية، كما استفادت كثيراً من مجرياتها، فلم تكن الصبية السودانية، بزيها التقليدي وأنشودتها الجميلة، أجمل من فدوى سليمان التي أخافت الطاغية بكوفيتها ويدها اليمنى ترتفع وتنزل وهي تصدح: "الشعب السوري واحد"، وبرفضها للتنميط الطائفي الذي أراد النظام منه حشر الطائفة داخله، فاضطرت إلى مغادرة البلاد، ثم فارقت الحياة بعيداً من أرضها، حيث كرمتها باريس بينما تبرأت منها عائلتها، لأسباب طائفية. كما لم تكن الملايين التي غطت شوارع الجزائر أكثر من جماهير سورية في مدنها كلها.

المختلف هو أن النظام الأسدي بنى جيشه ومخابراته على أسس طائفية، وساهم في تعميق الصدوع الاجتماعية القائمة على أسس مذهبية وعرقية والتي ساهمت فيما بعد بإضافة عامل مدمر للثورة، فمعظم قيادات الفرق العسكرية من العلويين، ورؤساء الفروع المخابراتية أيضاً، وفي بعض الفروع حتى العناصر والأطباء، بينما لا تعرف الجيوش في البلدان الأخرى مثل هذه التركيبة الديموغرافية الطائفية الطابع، حيث وقفت الجيوش في أغلب بلدان الربيع العربي على الحياد، إن لم تكن انحازت إلى جانب الشعوب، ولم يواجهوا المتظاهرين بالرصاص والدبابات.

يعود تشكيل الجيش السوري إلى فترة الاستقلال، اعتماداً على نواته "جيش الشرق" الذي شكلته فرنسا المعروف بتركيبته الأقلوية، ثم مرحلة التكتل العقائدي والمناطقي التي تمكنت خلالها لجنة البعث العسكرية الأقلوية من السيطرة عليه، ولتصبح المتحكم في سياسة البلد والقائد لانقلاباته، ليطيح الأسد الأب بها في انقلابه عام 1970 ويعيد هيكلة الجيش، إضافة إلى أجهزة المخابرات، على أسس طائفية، حيث أصبح القادة من الموالين الطائفيين.

عند استلام الأسد الوريث للسلطة عام 2000، كان المشهد مكتملاً بطائفيته وهيمنته على مختلف مجالات النشاط البشري، بعد أن استكمل الهيمنة على الجانب الاقتصادي، عبر نظام المحسوبيات الذي سنّه مع ابن خاله رامي مخلوف. وفي عشية الثورة عام 2011، كان معظم قادة الجيش، بكل فروعه وأقسامه، ورؤساء أجهزة المخابرات وخاصة الجوية والعسكرية، من العلويين المندمجين عضوياً مع نظام الأسد، فهذا هو الأمر المختلف عن الجيوش العربية التي اندلعت فيها ثورات الحرية والكرامة، التي لم يواجهها الجيش بالرصاص والنار، فلا شبيه لجميل الحسن، رئيس المخابرات الجوية الذي طالب باعتماد نموذج تدمير مدينة حماة عام 1982 كأسلوب لتعامل النظام مع المتظاهرين، بين الجيوش العربية.

عبّرَ الضباط القادة في الأجهزة الأمنية وقيادة الجيش عن عدوانية وإجرام تجاه المتظاهرين، لا مثيل له على مرّ التاريخ، ليس لأنهم من أبناء الطائفة العلوية فقط، وإنما لأنهم اندمجوا في السياسة الطائفية التي اتبعها النظام.

عبّرَ هؤلاء الضباط القادة في الأجهزة الأمنية وقيادة الجيش عن عدوانية وإجرام تجاه المتظاهرين، لا مثيل له على مرّ التاريخ، ليس لأنهم من أبناء الطائفة العلوية فقط، وإنما لأنهم اندمجوا في السياسة الطائفية التي اتبعها النظام، ووجدوا مصالحهم ضمن تلك العملية المقيتة، حيث الثراء الفاحش نتيجة الفساد والمحسوبية السائدتين ضمن تراتبية النظام برمته، تحت غطاء من الأيديولوجية الطائفية القائمة على مظلوميات قديمة، وأخرى مُتخيّلة تُصوّر البقية أعداء، وخاصة الذين يثورون على نظام العائلة الأسدية، واضعين أنفسهم ومصيرهم مع نظام الطاغية.

بغض النظر عمّا آلت إليه الثورة السورية، نتيجة لعوامل عديدة داخلية وخارجية، حيث تحولت البلاد إلى ساحة لتصارع القوى الإقليمية والدولية، كما صارت مرتعاً للميليشيات الطائفية التي أدخلها النظام، والتي دخلت عنوة عن إرادة شعبه، تبقى الثورة السورية من أكثر الثورات شجاعة، حيث نادى السوريون بإسقاط أكثر الأنظمة وحشية، وقدّموا مقابل ذلك مئات الآلاف من الضحايا ومثلهم من المعتقلين، أما حكاية النساء النسوريات فلم تبلغها أي تجربة أخرى في الربيع العربي، ومن المؤكد أنها ألهمت ثورات الربيع العربي التي تلتها.

بالتأكيد ثورة كهذه لن تموت، رغم كل ما حلّ بها، وستنال ما نادت به، وستبلغ غايتها لا محالة، لأنها عبدت الطريق نحو الحرية بالآلام والدماء، وستزهر هذه التضحيات يوماً، مهما طال الزمن.

كلمات مفتاحية