الأزمة الأوكرانية: احتمالات المواجهة والحل

2021.12.16 | 18:07 دمشق

1232180296.jpeg
+A
حجم الخط
-A

على وقع تصاعد التوتر على حدود أوكرانيا الشرقية نتيجة حشود عسكرية روسية، ترى فيها تقارير استخباراتية أميركية تحضيرات لغزو محتمل، عقد الرئيسان الأميركي جو بايدن، والروسي فلاديمير بوتين، في السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2021 قمة افتراضية عبر تقنية الفيديو تناولت الأزمة وسبل مواجهتها. وقد هدد بايدن باتخاذ إجراءات اقتصادية وسياسية صارمة ضد روسيا في حال قيامها بعمل عسكري ضد جارتها الغربية، وأكد دعم بلاده سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها ودعوته للعودة إلى المسار الدبلوماسي، في حين أصر بوتين على رفض بلاده انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ونشر قوات وأسلحة هجومية على أراضيها، وتعزيز قدراتها العسكرية.

أولًا: الحسابات والمطالب الروسية

تنبع الحسابات الروسية في الأزمة الأوكرانية من هواجس تمدد الناتو والاتحاد الأوروبي في فضائها الحيوي، وصولًا إلى حدودها المباشرة، ومن ثم محاصرتها والضغط عليها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. ويقول الكرملين إن توسع الناتو شرقًا يمثل تهديدًا أمنيًا وجوديًا لروسيا.  ويرتبط بذلك أيضًا نظرة روسيا إلى أوكرانيا باعتبارها امتدادًا تاريخيًا وثقافيًا لها.  وعلى هذا الأساس، تقول موسكو إنها لن تقبل أبدًا بانضمام أوكرانيا إلى المؤسسات الغربية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتؤكد أن ذلك سيكون بالنسبة إليها سببًا كافيًا لشن الحرب. وتسعى موسكو، من خلال حشد قواتها على الحدود مع أوكرانيا، إلى توجيه رسالة واضحة إلى الغرب بأنها لن تقف مكتوفة اليدين إذا لم يتراجع عن مساعي ضم أوكرانيا إلى محوره.  وتتلخص مطالب روسيا في ما يلي:

1. الحصول على ضمانات غربية بعدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو

شدد بوتين، خلال القمة الافتراضية التي جمعته ببايدن، والاتصال الذي أجراه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على أن بلاده تريد إطلاق مفاوضات أمنية فورية مباشرة مع الولايات المتحدة والناتو "من أجل تطوير الضمانات القانونية الدولية لأمن بلاده". وتطالب روسيا بوقف توسع الناتو شرقًا، وعدم نشر قوات وأسلحة في الدول المجاورة لها، بما في ذلك أوكرانيا؛ ما يعيد إلى الأذهان أزمة جورجيا التي كانت بداية عودة روسيا إلى الإصرار على دور الدولة العظمى على الأقل في ما تعدّه مجالها الحيوي. وتخشى روسيا من أن نشر الولايات المتحدة والناتو أنظمة صاروخية استراتيجية متقدمة، بما في ذلك منظومات اعتراض صواريخ عابرة للقارات، يهدد أمنها مباشرة، ويخل بالتوازن العسكري المتبادل، ويقلص قدرتها على الردع.

2. وقف التصعيد العسكري شرق أوكرانيا

تطالب روسيا بأن تتوقف أوكرانيا عن محاولات استعادة المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون الذين تدعمهم روسيا في إقليم دونباس الذي يضم مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك شرق البلاد، وترى في ذلك خرقًا لبنود برتوكولي "مينسك 1" عام 2014، و"مينسك 2" عام 2015، اللذَين تمَّ التوصل إليهما تحت إشراف منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ونصَّا على شكل من أشكال الحكم الذاتي في المقاطعتين. علمًا أن روسيا وحلفاءها من الانفصاليين في إقليم دونباس لم يحترموا هم أيضًا بنود الاتفاقية، خصوصًا في ما يتعلق بـ "سحب الجماعات المسلحة غير الشرعية والمعدات العسكرية وكذلك المقاتلين والمرتزقة من أراضي أوكرانيا"، والسماح بإجراء انتخابات مبكرة، في خرقٍ معلن وصريح لسيادة أوكرانيا.

ثانيًا: الحسابات الأميركية

دبلوماسيًا، تحاول إدارة بايدن الظهور بصورة أكثر حزمًا عما كانت عليه إدارة باراك أوباما، عام 2014، حينما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم. وينظر بايدن إلى هذه الأزمة أيضًا بوصفها فرصة لإعادة الاعتبار لهيبته بصفته قائدًا أعلى للقوات المسلحة الأميركية، التي اهتزت على نحو بعيد من جراء الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في آب/ أغسطس 2021. أضف إلى ذلك أن واشنطن مهتمة بتعزيز صدقيتها التي تضعضعت، على مدى السنوات الماضية، بين حلفائها، وكذلك ترميم قوة الردع التي تراجعت أمام خصومها. وعلى هذا الأساس، تحرص إدارة بايدن هذه المرة على تنسيق تحركاتها مع حلفائها الأوروبيين، وفي الوقت نفسه تدرك أن فشلها في ردع التهديد الروسي لأوكرانيا يمكن أن يشجع خصومًا آخرين للولايات المتحدة ليفعلوا الأمر نفسه في مناطق أخرى من العالم، وتحديدًا أمام الصين التي تهدد بغزو تايوان. إلا أن التحركات الأميركية في السياق الأوكراني تبقى مقيّدة بخط أحمر يتمثل في عدم التورط في صدام عسكري مباشر مع روسيا. ومن ثم، تحاول إدارة بايدن أن توازن بين أمرَين؛ الأول عدم الانجرار إلى صراع عسكري أميركي–روسي، والثاني فرض تكاليف اقتصادية وسياسية وعسكرية باهظة على موسكو إن هي مضت قدمًا في الخيار العسكري مع أوكرانيا. وتنطلق الحسابات الأميركية من المحددات التالية:

1. عدم التورط في نزاع عسكري

تدرك الولايات المتحدة أن روسيا قوة عسكرية، تقليدية ونووية، كبيرة، يمنحها قربها الجغرافي من أوكرانيا أفضلية جيوستراتيجية كبيرة في حالة حصول صراع عسكري، ويجعل المنطقة بالغة الأهمية بالنسبة إلى أمنها القومي، في حين أنه لا توجد للولايات المتحدة وحلفائها مصالح أمنية قومية مباشرة في المنطقة تدفعهم إلى دخول حرب بهذا الحجم. وقد سبق للولايات المتحدة أن أحجمت عن التحرك حينما غزت روسيا جورجيا عام 2008، وأوكرانيا عام 2014 وحينما تدخلت في سورية عام 2015. ويرى بايدن أن القوة خيار لا ينبغي اللجوء إليه إلا عند الضرورة القصوى، "دفاعًا عن مصالحنا الحيوية فقط، وحينما يكون الهدف واضحًا وقابلًا للتحقيق، وبموافقة الشعب الأميركي". وجميع هذه الشروط غير متحققة في سياق الأزمة الأوكرانية الراهنة، إذ لا توجد مصالح حيوية أميركية مباشرة، ولا هدف واضح وقابل للتحقق. أما موافقة الشعب الأميركي على مثل هذه الحرب فمستبعدة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها من جراء تداعيات جائحة كورونا، والاستنزاف الذي تعرض له الاقتصاد الأميركي على مدى عقدين من الحروب المتواصلة؛ لذلك كان بايدن واضحًا حينما سُئل عمَّا إذا كان سيرسل قوات إلى أوكرانيا، وكان جوابه بالنفي. ولكنه استدرك بالتأكيد أن لدى الولايات المتحدة "التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا بموجب المادة الخامسة من ميثاق الأطلسي تجاه حلفائنا في ’الناتو‘ في حال تعرضهم للهجوم. هذا التزام مؤكد. ولكنه لا يشمل أوكرانيا" الدولة غير العضو في الحلف، كما قال.

2. رفع تكلفة أي عمل عسكري لروسيا

في مقابل استبعاد الخيار العسكري، تراهن إدارة بايدن على أن التهديد بفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا قد يردع بوتين عن مهاجمة أوكرانيا. وعلى هذا الأساس، هدد بايدن بعقوبات اقتصادية "لم يسبق لها مثيل" على روسيا، فضلًا عن تهديد إدارته بزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، بما في ذلك تقديم أسلحة هجومية فتاكة ومتقدمة، والسعي لعزل روسيا دوليًا. ووفقًا لمستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، فإن بايدن عازم على التصدي للتصعيد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية، وقد رفض خلال اجتماعه الافتراضي مع بوتين تقديم "التزامات أو تنازلات" بشأن أوكرانيا، وكان واضحًا أنه لا يقبل بـ "الخطوط الحمراء" التي وضعها بوتين.

اقتصاديًا، تدرس إدارة بايدن فرض عقوبات شاملة ضد روسيا إذا هي غزت أوكرانيا، بحيث تشمل إعاقة وصولها إلى أسواق السندات في نيويورك، وفرض عقوبات على البنوك التجارية الروسية الكبرى، بما فيها تلك التي تملك الحكومة حصصًا فيها، وتقويض قدرة روسيا على تحويل عملتها الروبل إلى دولارات أو عملات أجنبية أخرى، واستهداف أوليغارشية رجال الأعمال المرتبطين ببوتين بقيود مالية وأخرى على السفر، وربما منع روسيا من الوصول إلى نظام سويفت Swift للتعاملات المصرفية والتحويلات المالية الدولية، الذي يتوقع أن يكون له آثار وخيمة في الاقتصاد الروسي، بغضّ النظر عن آثاره السلبية في الشركات الأميركية والأوروبية. وقد أكدت المسؤولة في الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، أن بلادها مستعدة لعزل "روسيا تمامًا عن النظام المالي العالمي مع كل التداعيات التي قد تترتب على ذلك".

وتهدد إدارة بايدن أيضًا بأن خط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم 2" الذي يصل إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، متجاوزًا أوكرانيا، سيتم تعليقه. وفي هذا الصدد أشار سوليفان إلى أن "الأشياء التي لم نفعلها في عام 2014، نحن على استعداد لفعلها الآن"، بالتنسيق مع حلفائنا الأوروبيين. ومع ذلك، فإن مسؤولين أميركيين لا يتوقعون أن تشمل العقوبات قطاع الطاقة في روسيا، لأن ذلك قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز في أوروبا والولايات المتحدة.

ويبدو أن إدارة بايدن حسمت أمرها من ناحية جعل أي عمل عسكري روسي في أوكرانيا أكثر تكلفة، وذلك عبر حِزمٍ من المساعدات العسكرية لأوكرانيا تشمل الصواريخ المضادة للدبابات. ووفقًا لوزارة الدفاع الأميركية، فإن واشنطن قدمت لأوكرانيا عام 2021 ما يقرب من 450 مليون دولار مساعدات عسكرية. وقد بلغ حجم المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا منذ عام 2014 أكثر من 2.5 مليار دولار. وتقوم قوات أميركية محدودة بتدريب القوات الأوكرانية وتقديم المشورة لها لتعزيز قدراتها للدفاع عن النفس. ومع أن إدارة بايدن تؤكد أنها لن تضع قوات قتالية في الأراضي الأوكرانية، فإنها حذّرت موسكو من أنها ستعزز الوجود العسكري الأميركي في دول الناتو في المنطقة.

خاتمة

رفض بايدن إعطاء روسيا حق النقض على طلب أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، وفي المقابل، من غير المرجح قبول هذا الطلب في المدى المنظور لتجنب استفزاز موسكو. وقد ألمح سوليفان أنّ واشنطن وحلفاءها الأوروبيين منفتحون على مناقشة "الهواجس الاستراتيجية" لروسيا، وهو الأمر الذي رحّب به الكرملين. وتدرك واشنطن أن قدرتها على ردع غزو روسي محتمل لأوكرانيا محدودة، وهي لن تغامر بصدام عسكري مباشر مع روسيا في محيطها الجيوستراتيجي، قد يقود إلى حرب نووية. وفي حين أن العقوبات التي تهدد بها إدارة بايدن سيكون لها تداعيات كارثية على الاقتصاد الروسي، تدرك هذه الإدارة أيضًا أن أي عقوبات اقتصادية ستكون تكلفتها بالنسبة إلى روسيا أقل من تكلفة وجود عسكري أطلسي على حدودها الغربية يهدد أمنها القومي، ويقوض استراتيجيتها العسكرية. ومع ذلك، يشعر الكرملين بالقلق من الانجرار إلى معركة استنزاف طويلة الأمد في أوكرانيا، تدعمها واشنطن ومن ورائها الناتو. وبما أن بوتين لا يملك أن يظهر بصورة من يتراجع أمام التهديدات الأميركية والأطلسية، فإنه لا يتوقع أن يسحب قواته قبل الوصول إلى صفقة تحفظ له مصالحه.

في الحصيلة، لا تريد واشنطن تصعيدًا مع موسكو، ولا تسعى الأخيرة أيضًا إلى ذلك؛ فتداعياته الاقتصادية الوخيمة سوف تشمل الجميع، خصوصًا في ظل جائحة كورونا، ما يعني أن احتمال إحياء مسار مينسك الدبلوماسي يبقى الأرجح، في انتظار ظروف أفضل في المستقبل يتحيّنها كل طرف ليحقق أهدافه.