الأدب والتكنولوجيا

2021.12.15 | 05:19 دمشق

altknwlwjya.jpg
+A
حجم الخط
-A

في عام 1824 انتهى لودفيغ بيتهوفن من المسوّدة الأولى لعمله السيمفوني الرائع الذي اتخذ له رقم تسعة، أو ما سمّاه النقاد سيمفونية الكورال، بيتهوفن لم يكن يطلق تسميات على سيمفونياته مثل بقية المؤلفين بل كان يطلق عليها ترقيماً جعلها أشبه بتجارب متتالية، ذات سياق متصل، وبناء عليه قامت مجموعة من العلماء والفنانين ومطوّري التكنولوجيا وخبراء الذكاء الصناعي، بمرافقة بعض المؤرخين والباحثين في تراث وموسيقا بيتهوفن، بتغذية الكومبيوتر والبرنامج الخاص بإعادة إنتاج آلية تفكير بيتهوفن وكيف كان سيفكر بناء على تراتبية أعماله وخصوصاً عمله الأخير (السيمفونية التاسعة)، وضعوا فرضيات عن إيقاع العمل وتواتر حركاته، وإيقاعه، بناء على توتر شخصيته وتصاعد انفعالاته المتفاعلة مع تطور صممه، ونجاحه الأخير، وبلوغه سن الثامنة والخمسين، وما يترتب عليها من يأس أو حكمة أو غضب أو نضج، كل تلك العوامل وضعت في البرنامج، مرفقة بكامل أعمال بيتهوفن وأعمال كانت تعجب بيتهوفن، من موسيقا وأشعار وكتب، وحتى أصوات البحيرة التي كان يجلس عندها رغم أنه أصمّ، والألوان التي كان يراها كل يوم من نافذة بيته، باختصار أدخلوا كل ما كان بيتهوفن ذاته يلمسه أو يحسه أو يفكر به.. إلى ذلك البرنامج الذي يستخدم الذكاء الصناعي، وانتظروا عبر خورازمية التأليف المبرمجة أيضاً، انتظروا النتيجة..

فأنتج ذلك البرنامج دقائق مما يفترض تسميته (السيمفونية العاشرة) التي كان يمكن لبيتهوفن تأليفها لو قدّرت له الحياة.. بيتهوفن ذاته كان ليذهل من سماع تلك النوتات التي تضج بشخصه وطاقته وحيويته الموسيقية.

في جانب آخر يطمح الكثيرون من مطوري البرامج بالاستغناء عن مهنة الكاتب نهائياً، هنالك أصوات تتردد تذمراً من آليات ومزاجية الكتاب بحيث أنه من المعروف أن الأفكار الأدبية عبر التاريخ لم تتجاوز 35 فكرة، وكل ما فعله الأدب منذ فجر التأريخ حتى اليوم هو إعادة إنتاج هذه الأفكار وتدويرها ومعالجتها عبر الزمان والمكان والعصر، مما سبق ابتكر بعض مطوّري البرامج تطبيقاً يتيح لمستخدمه تزويد الذكاء الصناعي بعدد لا متناه من الأدب العالمي، عشرات الآلاف من الروايات والأساطير والمسرحيات والأشعار، والنكات والقصص القصيرة، وحتى الدراسات الأسلوبية، ويمكن للمستخدم وضع محددات للعمل الذي يودّ من الذكاء الصناعي أن ينتجه له، مثل عدد الشخصيات والمكان والبيئة ومستوى اللغة، والأسلوب الفني، وبالتالي يمكن للمستخدم الروسي أن يزوّد تطبيقه بكلّ أعمال تولستوي ودستويفسكي وتورغنييف وتشيخوف وباسترناك وشولوخوف وزمياتين ونابوكوف، وغوغول وجوركي، وإلى ما هنالك من كبار كتاب روسيا، والضغط على زر التأليف من أجل إنتاج عمل روائي ضخم يتحدث عن روسيا اليوم بآلية إنتاج تشبه آلية تفكير هؤلاء العمالقة، كل ما يحتاج إليه البرنامج هو ساعات لإنتاج تلك الرواية الهائلة الحجم.. بحبكة محكمة وشخصيات حية، وواقع وإسقاطات عظيمة..

هل انتهى الأدب؟

ربما سيكون علينا في هذه الحالة إدراك أن العامل البشري انتهى وأن لا جديد تحت شمس أدب الذكاء الصناعي، ولكن قدرة الابتكار الموجودة في عقول الأدباء بلا شك قادرة على إنتاج شكل أدبي جديد كلياً غير مضاف إلى ذلك الذكاء الصناعي.. القائم على فكرة اجترار الأدب الموجود في ذاكرته وإعادة إنتاجه باحتمالات لم يتطرق إليها البشر بعد، وهذا صحيح، فأكثر من 99 % من الأدب المعاصر هو إعادة إنتاج لأفكار قديمة، ومن لم يأت بجديد في أدبه يكرر ما فعله السابقون.. كما قال أبو العلاء المعري في فخره الشهير بشعره:

وإني وإن كنت الأخير زمانه          لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

ولكن أين المعري من زماننا هذا، وأين التجديد في زمن الذكاء الصناعي الذي باستطاعته إنتاج لوحة فنية مشابهة لأعمال ليوناردو دافنشي، في اللون والدقة والظلال والكتل والتوازن؟

ولكن مهلاً، في الحادي عشر من أيار 1997، استطاع الحاسوب المُزود بالذكاء الصناعي (ديب بلو) هزيمة بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف، في مبارة ملحمية تصلح لأن تكون ملحمة لهذا الزمان المعقد، فتلك اللعبة التي ابتكرها البشر والتي تعتمد على احتمالات لا حصر لها تنتج عن كل حركة، استطاعت شركة IBM أن تزود حاسوبها بملايين التكهنات لاحتمالات لعب الخصم، وبالتالي استطاع الحاسوب الذكي أن يسبق اللاعب البشري كاسباروف بعدد هائل من الاحتمالات، وبالتالي الفوز عليه في سابقة تاريخية خالدة.

هذا الأمر ليس سبقاً وحسب، وإنما كان تفكيك الحاسوب "ديب بلو" وتحطيمه هو السبق، إذ إن البشر استشعروا أن عصرهم قد آلَ إلى الزوال، ما لم يتدخلوا ويغلقوا باب التدخل الصناعي في حياتهم، تماماً كما فعلت الدول التي حرّمت استمرار تجارب الاستنساخ البشري، بعد نجاح تجربة استنساخ النعجة دولّي، وبالتالي فتح الباب أمام خلق البشر تماماً بعيداً عن آليات الإنتاج البشري..

يبدو الأدب وهو المنتج الذهني الأشد حساسية ورهافة وحضارة للإنسان في خطر كبير، إذ باتت المشاعر والأحاسيس قابلة للإنتاج الصناعي، مثل الموسيقا والأغاني والأشعار، بحيث يمكن للعاشق أن يستخدم تطبيقاً ذكياً لإنتاج قصيدة حبّ في محبوبته، يكون خاصاً بها، وغير منسوخ من مشاعر شاعر آخر عشق محبوبته قبل مئة عام على سبيل المثال.

كلمات مفتاحية